التكنولوجيا ولعبة التجسس

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعمل التكنولوجيا المتطورة على تغيير لعبة التجسس، وذلك من خلال دمجها أدوارا كانت في الماضي غير متوازنة في مجال الاستخبارات، وتفضيلها تصديرا متزايدا لأدوار التجسس التقليدية إلى القطاع الخاص.

وقد استشهدت وكالة "بوستميديا نيوز" الكندية مؤخرا بخطاب لريتشارد فادن، رئيس وكالة التجسس الكندية، أي خدمة الاستخبارات الأمنية الكندية، اعترف خلاله بهذه الحقيقة الجديدة، حيث قال: "في عالم المعلومات الذي نعيشه اليوم، والذي يشمل "ويكيليكس" والإنترنت ووسائط الاتصال الاجتماعية، يقل بصورة متزايدة عدد الأسرار ذات المغزى التي قد يريد أمثال جيمس بوند في العالم سرقتها.

وعلى نحو مفاجئ، أصبحت القدرة على فهم المعلومات تضاهي في قيمتها جمع تلك المعلومات".

وأضاف أن المحللين يجب أن يكونوا مطلعين على مختلف الموضوعات، وخلاّقين بالدرجة التي تمكنهم من تصور التهديدات التي لم يتم تحديدها بعد.

ويعتقد معظم الناس أن الجاسوس يشبه جيمس بوند أو جيسون بورن أو إيثان هانت، الذي يجسد شخصيته توم كروز في أفلام "المهمة المستحيلة".

ولو كانت أفلام التجسس أقرب إلى واقع ضابط المخابرات العادي، لكان أعنف ما سيراه المشاهدون هو دلق بطلنا لمشروب الـ"فينتي موكا" على نفسه، أثناء إعداده القهوة لزملائه في السفارة.

أما الجواسيس الذين نراهم في الأفلام فهم غير نمطيين، وأشبه بعملاء الغطاء غير الرسمي، الذين يخرجون بمفردهم دون أي غطاء أو حصانة أو حماية دبلوماسية، ويمثلون قلة قليلة من عملاء المخابرات الحكومية.

 ولكن لا شيء ينفجر من حولهم كذلك، فتلك مهمة القوات الخاصة.

ونتيجة للطابع الفتان الذي أضفته هوليوود، أصبحت كلمة "جاسوس" مصطلحا شاملا يضم كلا من "الضباط" و"العملاء". وإليكم الفرق: ضباط المخابرات يقضون معظم وقتهم في الجلوس وراء المكتب، في سفارة غالبا مع ميزة الغطاء الدبلوماسي.

أما "العميل" المسكين الذي يعمل لحسابه الخاص، والذي تمكنوا من تكليفه بالعمل الحقيقي، عادة من خلال استغلال نقطة ضعفه، سواء تمثلت في حاجته إلى المال أو اعتداده بنفسه أو حسه الوطني، فهو يزود الموظف المكتبي بمعلومات مفيدة، معرضا نفسه أحيانا لخطر حقيقي.

ويناسب العميل صورة جيمس بوند، أكثر مما يناسبها الموظف الحكومي في الوكالة، ومع ذلك فإن العملاء لا يتم توظيفهم من قبل وكالة التجسس، فهم مجرد مراسلين.

وفي السابق، كان الفصل بين الوحدات أو الأفراد عنصرا أساسيا في لعبة التجسس، إذ كانت أدوار الضباط (إدارة المعلومات) والعملاء المجندين (جمع المعلومات) تبقى منفصلة، وذلك لكي يتسنى للضابط والوكالة، في حال أخفق العميل، التبرؤ من الموظف المستقل عن طريق سياسة الإنكار.

وباستثناء أولئك القابعين في قمة السلسلة الغذائية للوكالة، فقد كان الضباط يخضعون للفصل، بحيث لا يسعهم فهم النطاق الكامل لأنشطتهم ومهماتهم، أو لكيفية انسجامهم في الصورة الأكبر بكثير، إذ يتم إعطاؤهم قطعة صغيرة من الأحجية، التي يجمعون المعلومات حولها من خلال عملائهم المجندين، ومن ثم يتم إرسال تلك المعلومات إلى أعلى السلسلة، حيث ينتهي بها المطاف على مكتب محلل ما.

غير أن هذه الديناميات آخذة في التغير، فلم يسبق أن كان الأشخاص العاديون يتمتعون بهذا القدر من الاطلاع على مصادر الاستخبارات والمعلومات، من خلال أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم، بدءا من قواعد البيانات المجانية، أو تلك التي تقوم على الاشتراك، ووصولا إلى المصادر البشرية حول العالم، عبر وسائط الاتصال الاجتماعية.

ويتيح هذا الوصول لضباط المخابرات، فهم دورهم بشكل أفضل في السياق الأوسع لأي عملية معينة، حتى عندما يعمد رؤساؤهم إلى حجب المعلومات عنهم.

وبالتالي فإن التكنولوجيا تغير طبيعة اللعبة، وتزيل الفصل، وتدمج أدوار العميل والضابط والمحلل، لأولئك الذي يستطيعون لعب الأدوار الثلاثة بكفاءة.

وحيث يسود تعهيد عمل المخابرات لعناصر في الخارج بالفعل، كما في الولايات المتحدة، يمكننا أن نتوقع لهذا الاتجاه أن يستمر في التحرك نحو توظيف ما قد يتم وصفه بخلايا كاملة من عملاء الغطاء غير الرسمي، أو الجواسيس المجاورين متعددي المواهب والمستقلين، وهم الأفراد الذين سيتم الحكم على كفاءتهم بناء على أدائهم في ظل سوق عمل تنافسي، وليس بناء على الأقدمية الحكومية.

وسيتم تكليفهم بجمع المعلومات وإدارتها وتحليلها، وتزويد وكالات التجسس بتحليل عملي مبتكر.

وانتقلت كل من سياسة الإنكار المحتمل ومخاطر التجسس من أجل الربح، التي كانت تكمن في الرابط بين الضابط الحكومي وعميل التجسس المستقل، إلى الرابط بين المقاول الخاص والحكومة.

وبدلا من وجود مراسل واحد يعمل نيابة عن ضابط الحالة، فإننا نرى الآن شركات مقاولات خاصة أو مراكز أبحاث تعمل نيابة عن الحكومة.

ماذا عن الجانب السلبي؟ ليس ما يبدو تنافسيا في السوق الحرة كذلك دائما. مع تدفق السفراء والمقربين السابقين إلى مجالس إدارات هذه الشركات الخاصة، فإنه يصعب عدم التساؤل عما إذا كان العمل يكافأ على أساس الجدارة أو على أساس النفوذ.

كما سيصعب على أي شخص أن يحدد من يعمل لصالح وكالة استخبارات حكومية، أو ربما أكثر من وكالة واحدة!

أما بالنسبة لفكرة أن العديد من الناس قد يتمكنون من الوصول إلى معلومات حساسة، فقد يجادل المرء بأن معظمنا يمكنهم ذلك بالفعل، وبسهولة، طالما أنهم بارعون بما يكفي لجعلهم يبحثون في المكان الصحيح.

Email