مؤسسات على طاولة الجرجير

ت + ت - الحجم الطبيعي

جفّ ريق اثنين من متسلقي الجبال عندما وجدا نفسيهما أمام دب رمادي جائع، واستغرب أحدهما عندما رأى زميله يشدّ حذاءه للجري، وكان مُحقاً لأن سرعة هذا الدب تبلغ 65 كيلومتراً بالساعة بينما تبلغ سرعة العداء أوساين بولت 44 كيلو متراً فقط، فقال له: هل تظن حقاً أنك تستطيع أن تسبق هذا الدب؟ فرد عليه: "لا يا عزيزي، كل ما علي هو أن أكون أسرع منك أنت"!

تُذكّرني هذه القصة بحال المؤسسات التي تلهث بصورة متسارعة هذه الأيام للتعاقد مع ما يُسمى "بيوت الخبرة" الاستشارية، لزيادة نجاحها الحالي، أو لشحن بطاريتها التي شارفت على النضوب، أو لإنقاذها من الغرق مع الغارقين منذ بدأت الأزمة الاقتصادية العالمية، ففي رأي أغلب مسؤوليها لا زال عند صاحب البدلة المتأنقة بُعداً وفكراً يستحيل وجود مثله بين جدران المؤسسة وموظفيها البسطاء.

فالفكر الاستراتيجي القادر على فتح أبواب النجاح المستقبلي لا يأتٍي ممن ألفنا وجهه بيننا، بل لا يستطيع الاتيان به إلا أولئك الذين يتحدثون بـ"كلام كبير" لا نفقه تسعة أعشاره لكثرة المصطلحات وصعوبتها، والذين كلما زادوا من تلك الخطابيات اللوغاريتمية كلما أحسسنا أنه إن لم نسمع كلامهم ونُسارع بالتوقيع مع خدماتهم فإن الفشل الذريع هو ما ينتظرنا نهاية هذا اليوم وليس الغد!

هذه "البيوت" تعتبر عالماً قائماً بذاته، ويكفي أن نعرف أن سوق الولايات المتحدة مثلاً يحوي قرابة 130,000 مكتب منها، وعوائدها السنوية تبلغ 140 مليار دولار أميركي، فهي سوق مرعبة ولكنها لا تقوم إلا على كثير من التضليل وبيع المُسكّنات والحلول الشكلية المُعلّبة.

ففي دراسة قامت بها كلية الإدارة بجامعة كرانفيلد البريطانية مؤخراً لـ170 شركة ممن استخدموا خدمات استشارية، أظهرت النتائج أن 36% فقط كانوا راضين عن المخرجات النهائية، بينما اعتبر 64% أن مقترحات الاستشاريين كانت ضارة أو عديمة جدوى، وبمثل هذا المعدل الكارثي من الفشل سيتم سحب أي دواء مشابه من أرفف الصيدليات وسيُدرج في قائمة الحظر القومي السوداء!

لا أنكر أن هناك بعض الحالات الايجابية لهذه البيوت، ولكنها تبقى نزراً بسيطاً مقارنة بفشل العديد منها وبإغراقها للكثير من المؤسسات بخطط عملٍ غير عملية أو غير مفهومة المعالم وبإفسادها للبيئة الداخلية وما يتبعه من تردي متزايد للروح المعنوية للموظفين، ولئن كان من شيء يستفز اندهاشي فهو قبول كل المؤسسات بدفع قيمة تلك الخدمات الاستشارية فور تقديم ذلك الكتيّب النهائي المليء بالرسوم البيانية.

فلماذا لا تشترط الدفع بتحقق النتائج المطلوبة من تطبيق تلك الخطط والمقترحات وليس قبل ذلك؟ لماذا ندفع ثمناً مجزياً لمن يبيع لنا السمك في البحر؟ كل أنواع الخدمات يتم الدفع بعد نهاية تقديمها إلا الخدمات الاستشارية فيتم الدفع قبل التنفيذ، فلماذا؟ ببساطة لأنهم يعلمون أن حلولهم لا يمكن أن تنجح إلا إن حدثت معجزة!

يقول ديفيد كريج خريج تخصص "الشعر الرومانسي"، إنه تفاجأ بتعيينه في واحدة من كبريات الشركات الاستشارية، ليخضع بعدها لبرنامج تدريبي لمدة ثلاثة أسابيع فقط، ثم تم إرساله كـ"خبير" لاقتراح حلول لشركات النفط العملاقة ومتاجر تجزئة كبرى وشركات صناعاتٍ معقدة.

والعجيب أنّ مقترحاته كانت دوماً محل ترحيبٍ من الإدارات العليا بتلك المؤسسات، ليقوم بعد أن استيقظ ضميره- بتأليف كتابه الشهير "النهب" عام 2005 لفضح ألاعيب تلك المكاتب، حيث يقول: "إنها كعملية سطوٍ على مصارف ولكن بطريقة شرعية، كان بإمكاننا أخذ أي شخص من الشارع لنُعلّمه بعض الحيل والمصطلحات خلال ساعتين فقط، ثم نُرسله على هيئة خبير للمتعاملين معنا مقابل 7000 جنيه استرليني في الأسبوع"!

لهذه البيوت طريقة مألوفة لـ"الصيد"، فهي تحشد مجموعة من كبار الخبراء والمفكرين في مقابلة المسؤولين الأولى، والتي يشعر فيها المسؤول بالتضاؤل أمام هذه العقليات الجبّارة ويستمر ذلك التلاشي كلما استرسلوا بالحديث عن منجزاتهم وعن المخاطر التي كادت تعصف بهذه الشركة أو تلك وكيف أن تدخّلهم هم ما أعادها للمسار الصحيح، وما أن يُسارع ذلك المسؤول بالتوقيع معهم حتى يتم سحب جميع الخبراء والزج بشبابٍ من حملة الماجستير في إدارة الأعمال والذين تُرمى مصائر تلك المؤسسات ومستقبلها بين أيديهم رغم أنه لم يسبق لهم إدارة طاولة لبيع الجرجير من قبل!

اللعبة تستمر خلال فترة تجوالهم بين مكاتب المؤسسة و"سرقتهم" لأفكار الموظفين قبل أن يتم نسبتها لأنفسهم، إذ يتم ابقاء المسؤول "على أعصابه" لضمان دعمه لوجودهم وإذعانه لمقترحاتهم، وكما يقول بلوغر:

 "الخبير هو شخص يعرف شيئاً واحداً لكنه سيجعلك مرعوباً للغاية!"، وعندما ينتهي الأمر بذلك الكُتيّب الملوّن نكتشف أن معظم ما يحويه هو مجرد أرقام ورسوم بيانية لما هو موجود فعلاً وما يعلمه كل الموظفين ما عدا ذلك الجالس في المكتب الكبير مع خبرائه، وينتهي بورقتين تحويان حلولاً إمّا خاطئة لأنها من باب "اقطع والصق"،.

أو قاصرة لأنها أُخِذت من الموظفين دون معرفة سياقها، ثم يلوذوا بالفرار بعد أن يُخطروا المسؤول بـ"شكّهم" في قُدرة الموظفين الحاليين على "الوفاء" بمتطلبات الخطة الاستراتيجية التي وضعوها، فهم يستبقون الفشل بالتمهيد للفوز بعقد استشاراتٍ جديدة من أجل تأهيل الموظفين لتطبيق هذه الخطة، وتبدأ اللعبة من جديد!

 

Email