«حصان إبليس»

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعض رجال الدين، ومسماهم عندنا الفقهاء، هم في الغالب الأعم من المحافظين الذين يقفون عقبة أمام كل تجديد. هذا ليس حصراً على المجتمعات الإسلامية فحسب، بل يكاد يكون قانوناً عاماً بقوة قانون الجاذبية الذي اكتشفه نيوتن! رأيناهم في السنوات القليلة الماضية ـ وما زالوا ـ يقفون أمام حقوق المرأة السياسية، وقرأنا عنهم قبلئذ وقوفهم أمام تعليمها، ولو أردنا أن نعدد لضاق بنا المجال.

كنت أقرأ في الآونة الأخيرة كتاب «جزيرة العرب في القرن العشرين» لحافظ وهبة، وهو أحد وزراء الملك عبد العزيز بن سعود، الذي أسس الدولة السعودية الثالثة وحكمها نصف قرن ونيفاً (1901-1953). يقول في صفحة (126) إنه قامت ضجة بين علماء الدين النجديين، واجتمعوا في مكة في يونيو 1927، حينما قررت إدارة المعارف هناك تدريس الرسم واللغة الأجنبية والجغرافيا.

 واحتجوا بأن الرسم هو التصوير، وهو محرم قطعاً، وأما اللغات فإنها ذريعة للوقوف على عقائد الكفار وعلومهم الفاسدة، وفي ذلك ما فيه من الخطر على عقائدنا، وعلى أخلاق أبنائنا. وأما الجغرافيا ففيها كروية الأرض ودورانها، والكلام على النجوم والكواكب، مما أخذ به علماء اليونان وأنكره علماء السلف.

وقد بين حافظ وهبة للمشايخ أهمية تدريس هذه المواد، وعدم تعارضها مع العقيدة الإسلامية، فلما رأى حضرات المشايخ ـ كما يضيف ص127 ـ أن البحث طال قالوا: لقد قررنا ما نعتقد ورفعناه إلى الإمام (يقصدون الملك عبد العزيز)، ولسنا في حاجة إلى الجدل المنهي عنه شرعاً، فإن قبل الإمام ما رأينا فالحمد لله، وإن خالفنا فليست هذه أول مرة يخالفنا فيها!

لم يقف المشايخ ضد تدريس بعض المواد التي لا يستقيم دونها أي تعليم حديث، بل وقفوا ضد إدخال الآلات الحديثة واستخدامها من قبيل اللاسلكي. يقول وهبة في موضع آخر من كتابه الشيق (ص 282):

أوفدني جلالة الملك للمدينة سنة 1928 مع عالم كبير من علماء نجد، للتفتيش الإداري والديني، فجرى ذكر التلغراف اللاسلكي، وما يتصل به من المستحدثات، فقال أحد الشيوخ: لا شك أن هذه الأشياء ناشئة عن الجن، وقد أخبرني ثقة أن التلغراف اللاسلكي لا يشتغل إلا بعد أن تذبح عنده ذبيحة، ويذكر عليها اسم الشيطان!

وقد أخبرني جلالة الملك - يقول المؤلف في صفحة (283) - في ديسمبر 1932 أثناء زيارتي للرياض، أن كبار رجال الدين حضروا عنده سنة 1931 لما علموا بعزمه إنشاء محطات لاسلكية في الرياض وبعض المدن الكبيرة في نجد، فقالوا: يا طويل العمر، لقد غشك من أشار عليك باستعمال التلغراف وإدخاله إلى بلادنا. وقد رد عليهم الملك قائلاً: لقد أخطأتم فلم يغشنا أحد، ولست، ولله الحمد، بضعيف العقل أو قصير النظر لأخدع بخداع المخادعين.

ثم يروي أنه عندما وضعت الآلة اللاسلكية في الرياض واستعملت، كان الناس يعزي بعضهم بعضاً بأن إنشاء هذه المحطة هو الحد بين الخير والشر. وكان العلماء يرسلون من يأتمنونهم لزيارة المحطة ورؤية الشياطين والذبائح تقدم لهم، فلم يجدوا شيئاً!

ومن الطرائف التي يرويها وهبة (ص289)، أن هؤلاء المشايخ والمتعصبين من حولهم، كثيراً ما كانوا يقطعون أسلاك التليفون لأنه منكر تجب إزالته، وكثيراً ما تعمدوا قطع الأسلاك الموصلة إلى قصر ابن سعود (الملك عبد العزيز بن سعود)، أثناء وجوده في مكة.. كل هذا كان يتحمله على مضض لعل الزمن يغيرهم.

وحدث مرة أن أحد هؤلاء المتعصبين ضرب خادماً للملك يركب عجلة (بسكليت)، وتسمى بلغة نجد «عربة الشيطان» أو «حصان إبليس»، بدعوى أنها بدعة، وأنها تسير بقوة السحر والشيطان، بدليل أن الراكب إذا نزل لم تقف. ولكن الملك أدب هذا المعتدي أدباً أرجعه إلى رشده!

 

Email