مآسي البورصة المضحكة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بقلمه الساخر ونقده اللاذع كتب فيلسوف عصر التنوير الفرنسي فولتير (1694-1778)، الذي عاش مطلع شبابه في لندن منفياً يقول: «أنظر إلى بورصة الأوراق المالية الملكية بلندن، هناك يُجري اليهودي والمسلم والمسيحي معاملاتهم معاً وكأنهم من دين واحد، ولا ينعتون بالكفر غير المفلسين»! وبورصة لندن هذه التي افتتحت في العام 1698 كانت ثمرة للنشاط التجاري الذي دب في بريطانيا في ذلك القرن، حيث امتزجت روح المغامرة التي كانت شيمة أبناء الطبقة الوسطي (فيما بعد البرجوازية)، بنزعة طبقة النبلاء، الذين كانوا في الماضي يحتقرون العمل التجاري، ليصبحوا هم داعميه وشادي أزره.

ومع استتباب الحال لسوق الأوراق المالية، ظهرت المضاربة على أسهم الشركات المدرجة فيها، حيث شهد مطلع القرن الثامن عشر نمواً في العمليات المالية. ومع المضاربة على الأسهم بدء عصر من «المبكيات المضحكات» ـ إن جاز التعبير ـ في عالم المال والأعمال، وبدء الإثراء من دون عرق والخسارة التي تأتي على حين غرة، وما يتبعها من «خراب البيوت» وحالات الانتحار. وإليكم واحدة يوردها لنا المؤرخ الأميركي ول ديورانت في كتابه الفخم «قصة الحضارة» في المجلد الخامس والثلاثين حدثت في سني البورصة الأولى.

عانت الحكومة الإنجليزية من دين عام بمقدار 52 مليون جنيه في العام 1714. وهذا الدين كان يتراكم، إذ كانت فائدته 3.5 ملايين جنيه سنوياً. وتزايدت الدعوات للتخلص من هذا الدين، ورأت الحكومة الإنجليزية (في العام 1719) أن أفضل وسيلة هو تحويل 31 مليون جنيه منها إلى أسهم، حيث دعي حملة الأوراق الحكومية ليستبدلوا بها أسهماً في «شركة بحر الجنوب»، وهي شركة تأسست في العام 1711 وكانت تحتكر التجارة الإنجليزية مع المستعمرات الإسبانية في أميركا وجزر المحيط الهادي. وتجارتها شملت بيعاً للعبيد!!

وسرت «شائعات» بأن الشركة ستحقق أرباحاً خيالية، عززها كون الشركة أصبحت تحت رعاية حاكم البلاد الملك جورج الأول. وما أن طرحت أسهمها للبيع حتى ارتفعت في شهر واحد من 77 جنيهاً إلى أكثر من 123 جنيهاً للسهم الواحد. ولم ينس مديروها بالطبع تقديم هدايا سخية من الأسهم للوزراء كي يضمنوا تعاون الحكومة، في حين حذر العقلاء من هذا الارتفاع المفتعل، ولكن أصواتهم ذهبت أدراج الرياح، فلم يستمع إليهم أحد حتى من أعضاء البرلمان الذين وافقوا للشركة بطرح أسهم جديدة.

وفي 12 أبريل 1720 أصدرت الشركة أسهماً جديدة بسعر 300 جنيه للسهم، فتم الاكتتاب فيها فوراً. وكررتها بعد أسبوعين بسعر 400 جنيه للسهم الواحد، فلم تمض ساعات حتى غطي الاكتتاب بالكامل، ثم تجاوزت أسعارها الضعف خلال شهرين فقط!! وفي يوليو بيع إصدار جديد بسعر ألف جنيه للسهم!

يقول ول ديورانت: «وتهافت المجتمع الراقي كله على الاكتتاب، الأدواق والقساوسة والسياسيون والموسيقيون والشعراء، فأصبح شارع البورصة مشهداً لمنافسة هائجة مائجة على الشراء لم ير لها نظير إلا في شارع كانكمبو بباريس في الفترة ذاتها، فلقد كشفت طبيعة البشر عن نفسها عبر الحدود»! ويسرد لنا بعضاً من طرائف ذلك الزمان مضيفاً: «وبلغت اللهفة على المضاربة مبلغاً أغرى الشركة بطرح اصدارات صغيرة بلغت ستة وثمانين إصداراً. وبيعت أسهم أصدرتها شركات أنشئت لتحويل المعادن إلى فضة، ولتشييد المستشفيات للأطفال غير الشرعيين، ولاستخراج الزيت من الفجل، ولإحداث الحركة الدائمة (لا حظوا اسم الشركة المضحك) ولاستيراد الحمير من اسبانيا.

فتهاوت الأسعار، ودب الهلع والذعر فازدحمت مداخل شارع البورصة، كل يريد أن يتخلص من أسهمه قبل فوات الأوان، لتهبط إلى 135 جنيهاً للسهم في سبتمبر بعد أن كانت قبل شهرين أضعاف مضاعفة لهذا السعر!! وخسرت مئات الأسر الإنجليزية مدخراتها، وسرت بين الناس قصص الإفلاس والانتحار. وأفلست المصارف التي كانت قد أقرضت المال بضمان شهادات الأسهم! وتحرك الجمهور الغاضب، وطالب بالقصاص ومعاقبة المدراء، واقترح أحد أعضاء البرلمان أن يخاط المديرون المذنبون في زكيبة (خيشة) ويلقوا أحياءً في نهر التايمز!

ولو حظ يكتب ديورانت أن السير جون بلاونت، الذي كان من أوائل مؤسسي الشركة ومنظميها، ومن أول من بدأوا ببيع أسهمهم، كان رجلاً ذا مسلك في غاية التقوى، وكان دائماً يهاجم ما يشين العصر من سرقة وفساد، ويندد بجشع التجار!

Email