حول دعوة أبومازن العرب إلى زيارة فلسطين

ت + ت - الحجم الطبيعي

حمل الأسبوع الماضي إشارات فلسطينية متتابعة، تبدو متناقضة في دلالاتها.

فمن ناحية، أعلن صائب عريقات أن السلطة الفلسطينية تبحث اللجوء لمجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار يدين الاستيطان الإسرائيلي، وذلك في ضوء قرار لإسرائيل بشرعنة بعض المستوطنات وإقامة غيرها.

وطالب عريقات إسرائيل بأن تختار بين «السلام والاستيطان، حيث لا يمكن الجمع بينها».

ولكن على الجانب الآخر وفي التوقيت ذاته، كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس يدعو العرب للتخلي عن المقاطعة العربية لإسرائيل، والانطلاق بقوة نحو زيارة الأرض المحتلة، «ليقفوا على حقيقة ما يجري فيها.. ويطلعوا على أحوالها ويشدوا أزر أهلها ويدعموا عزيمتهم وإرادتهم».

وشرح الرئيس الفلسطيني وجهة نظره محدثاً ضيوفه «إنكم حين تأتون إلى هنا.. تعرفون تماماً حجم معاناة الشعب الفلسطيني، وبهمتكم ونفَسكم معنا أعتقد أنهم سيفشلون في تحقيق أهدافهم وأطماعهم».

والحقيقة أن هناك تناقضاً واضحاً بين التصريحين، يتعلق بأولويات السلطة الفلسطينية وطريقة إدارتها للصراع. فأنت إما أن تطالب العالم بالضغط على إسرائيل بشتى الطرق حتى تضطر اضطراراً لإنهاء الاحتلال، وإما أن تخفف عن إسرائيل بعض الضغوط مثل إنهاء المقاطعة العربية، وتنتظر أن يفتح ذلك الطريق لاستئناف «المفاوضات» أملاً في الوصول لحل. ولا يمكن في الواقع أن تجمع بين الأمرين؛ فإما الضغط على إسرائيل، أو تخفيف الضغط عنها.

فإسرائيل اليوم تخشى، أكثر من أي وقت مضى، حملات المقاطعة ضدها والتي أخذت اليوم طابعاً عالمياً. وهي تعتبر تلك الحملات من أهم مصادر التهديد للوجود الإسرائيلي ذاته، لأنها تنزع الشرعية عن الاحتلال وعن الأكاذيب الإسرائيلية المتعلقة بـ«واحة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة».

فالحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل صارت موجودة بقوة، وتزداد يومياً الدوائر الدولية التي صارت تقاطع، من الأكاديمية البريطانية، والفرق الرياضية الأوروبية، لعمال الموانئ الأميركيين، والاتحادات التجارية في جنوب إفريقيا، فضلاً عن عشرات الكنائس حول العالم. أكثر من ذلك، فقد انضم إلى الداعين للمقاطعة، إسرائيليون مثل الخمسمائة مثقف الذين وقعوا بياناً يطالبون فيه العالم بمقاطعة بلادهم.

وكل هؤلاء يدعون للمقاطعة ويمارسونها، لأنها صارت الحل الوحيد لإجبار إسرائيل على إنهاء الاحتلال، أسوة بالمقاطعة العالمية التي نجحت قبل عقود، ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

وقد حققت الحركة العالمية للمقاطعة ولدعم فلسطين، نجاحات فعلية. فقد ثبت مثلاً، من خلال استطلاعات للرأي أجريت في عشرات الدول، تدهور صورة إسرائيل في العالم، الأمر الذي دفع وزارة الخارجية الإسرائيلية لشن حملة علاقات عامة تنفق عليها الملايين، من أجل تبييض وجه الاحتلال.

وهذه الحركة العالمية لدعم الحق الفلسطيني، استخدمت تكتيكات وأساليب مختلفة من أجل زيادة الضغط على إسرائيل لإنهاء الاحتلال. منها مثلاً أساطيل المساعدات الإنسانية التي كانت تهدف لتسليط الأضواء على جريمة حصار غزة، ومنها أيضاً الحملة الأخيرة التي نظمها ناشطون من شتى أنحاء العالم، للطيران عبر إسرائيل للأرض المحتلة، من أجل تسليط أضواء الإعلام العالمي على انتهاكات الاحتلال.

والحقيقة أن ما جرى لنشطاء تلك الحملة الأخيرة، يقدم دليلاً حياً على أن دعوة أبو مازن للعرب لزيارة الأرض المحتلة، دعوة غير مدروسة وضررها أكثر من نفعها.

فوقائع القصة باختصار، أن ألفاً وستمائة ناشط مناصر لفلسطين حول العالم، كانوا قد عزموا على دخول الأراضي المحتلة، لتسليط الأضواء على ما يجري فيها. لكن ما إن وصل الفوج الأول إلى مطار بن غوريون، حتى تم ترحيل 12 ناشطاً فوراً إلى بلادهم، بينما تم اعتقال باقي النشطاء الخمسين، وتم إيداعهم السجون الإسرائيلية.

أما الأفواج الأخرى فلم تصل أصلاً، لأن شركات الطيران الدولية الكبرى تواطأت وألغت رحلاتهم، بعد أن هددتها إسرائيل بتحميلها نفقات ترحيلهم إلى بلادهم.

وإسرائيل، كما هو واضح تماماً من تلك الواقعة، تمنع من دخول الأرض المحتلة من يرغب في دخولها لدعم الفلسطينيين. فمن وصل من الناشطين إلى مطار بن غوريون تم ترحيلهم أو اعتقالهم، بينما تم حرمان الباقين أصلاً من القيام بالرحلة.

وهذا هو بالضبط العيب الرئيسي في دعوة أبومازن. فالرئيس الفلسطيني، وهو يدعو العرب لزيارة الأرض المحتلة، يعلم تماماً أن إسرائيل لن تسمح لهم بالدفاع عن الفلسطينيين وهم على أرض فلسطين. أما إذا تجرأ أولئك العرب على فضح الاحتلال بعد عودتهم لبلادهم، فلن يسمح لهم بدخول الأرض الفلسطينية من جديد.

فلأن إسرائيل لا تسمح بدخول الأرض المحتلة إلا وفق إرادتها ومعاييرها، فإن زيارة الأرض المحتلة كما يريد أبو مازن، لن تكون أكثر من زيارة للسياحة، يلتزم فيها العرب بالصمت المدوي على كل ما يجري أمامهم على الأرض طوال فترة الزيارة، ثم يعودون إلى بلادهم فيلتزمون الخرس أيضاً إذا كانوا يريدون العودة مرة أخرى. ولا أعرف على الإطلاق كيف يمكن أن يكون ذلك داعماً للفلسطينيين!

ولأن اللجوء لمجلس الأمن كما صرح عريقات، هو في ذاته منهج قد يواجه صعوبات جمة بسبب الفيتو الأميركي، فلا يبدو أن أمامنا سوى سلاح المقاطعة العالمية. ففي ظل الاختلال الفادح في موازين القوى، يصبح الضغط الشعبي العالمي هو الأمل، مثلما كان الحال في جنوب إفريقيا.

لذلك، فإذا لم ننضم للمقاطعة العالمية، فعلى الأقل علينا أن نُحجم عن إفشالها، وهو أضعف الإيمان.

Email