ما الذي جرى حقاً في مالي؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

التطورات التي شهدتها جمهورية مالي في الأسابيع الماضية، لها دلالات تتعدى مالي نفسها وتمتد إلى منطقة الساحل الإفريقي بكاملها. ولا نقصد بالتطورات الانقلاب العسكري الذي حدث، ثم العودة إلى الحكم المدني بعد رفض الاتحاد الإفريقي الاعتراف بقادة الانقلاب كحكام للدولة، وإنما نقصد العملية الانفصالية التي جرت في شمال مالي، والتي قامت بها قبائل الطوارق بمساعدة من إسلاميين يرجح أنهم من تنظيم القاعدة.

فقد كانت منطقة الساحل الإفريقي إحدى أبرز مناطق نشاط تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، الأمر الذي استدعى تعاوناً إقليمياً من دول المغرب العربي التي يهددها التنظيم، ودول الساحل الإفريقي وفي مقدمتها مالي، وكانت الدول الخارجية تتعاون لوجستياً، وعلى رأسها كل من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا.

واستمرار وجود التنظيم في هذه المنطقة، ثم نجاحه في مساعدة الطوارق في أن تكون لهم دولة في شمال مالي، يعني أمرين؛ الأول أن جهود مواجهته فشلت، وهو ما يتطلب صورة أخرى من التعاون الإقليمي الأمني بين كل دول الساحل الإفريقي ودول شمال غرب إفريقيا، لأنها كلها أصبحت الآن مهددة من هذا التنظيم. أما الأمر الثاني فهو أن نجاح التنظيم في تأسيس دولة، يعني انتقال عناصر القاعدة من مناطق متعددة في العالم إلى منطقة الساحل الإفريقي، بما يهدد دول المنطقة التي يستهدفها التنظيم، مثل الجزائر والمغرب وموريتانيا والنيجر، وهذا الأمر يعني أن القارة الإفريقية أصبحت المصدر الرئيسي لتهديد القاعدة، بعدما قل تواجده وتقلص نشاطه نسبياً في آسيا الوسطى.

وإذا عطفنا هذا التطور الأخير على ما يحدث في الصومال من تنامي تنظيم القاعدة هناك، فإن ذلك يعني أن منطقة الساحل الإفريقي وشمال إفريقيا ليست هي المهددة فقط، وإنما كل المناطق الإفريقية. وإذا أخذنا في الاعتبار أن هناك وجوداً ظاهراً للتطرف الإسلامي في غرب إفريقيا، ممثلاً في جماعة "بوكوحرام" ذات الوجود القوي في نيجيريا، وإمكانية أن تعلن هذه الجماعة في مرحلة ما عن انضمامها للقاعدة، لتصورنا مدى خطورة هذا التنظيم على إفريقيا ذات الموارد المهمة للاقتصاد العالمي، وذات الوضع الجغرافي المهم استراتيجياً للعالم الغربي.

وما حدث في مالي كشف عن تطورين غاية في الأهمية، الأول أن تنظيم القاعدة استطاع أن ينسج علاقة قوية مع قبائل الطوارق، وهو ما يفسر أسباب عدم نجاح الجهود التي بذلت لمطاردة التنظيم في المنطقة، لأنها كانت تقوم على فرضية عدم إمكانية التلاقي بين الجهتين، أي القاعدة والطوارق، لأسباب متعددة، ولكن يبدو أن سلوك الأنظمة في مواجهة الطوارق جعلهم يدركون أنه لا بد من تنحية هذه الأسباب جانباً والتعاون مع القاعدة في مواجهة الأنظمة. أما التطور الثاني، فهو أن الهشاشة التي يعاني منها بعض الدول والأنظمة، يمكن أن تهدد تماسكها ووحدتها، خاصة في ظل المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها، وعلى رأسها مشكلة الفقر.

وهذا الأمر يعني أن المواجهة الأمنية للقاعدة لن تكون مجدية، وإنما لا بد من أن تساعد الدول الغربية الدول الإفريقية اقتصادياً وتنموياً، إن كانت تريد فعلًا أن تواجه القاعدة في القارة السوداء. كذلك فإن نشاط القاعدة في إفريقيا يؤثر بصورة مباشرة على أمن منطقة الخليج العربي، وهو ما يتطلب صورة من صور التعاون الاقتصادي بين دول الخليج العربي وإفريقيا، خاصة دول الساحل الإفريقي التي تعاني من الجفاف وتراجع النشاط الزراعي، بسبب الظروف المناخية.

إن ما حدث في مالي لهو دليل على سقوط "ثوابت" كثيرة، خاصة في إفريقيا، منها الاعتقاد بأن الإسلام الجهادي غير قابل للانتشار في مواجهة الإسلام الصوفي الأكثر انتشاراً في القارة، وأن الطوارق والأمازيغ لا يمكن تجنيدهم لدى القاعدة لأسباب ثقافية. وهذه الثوابت سقطت لأن الأنظمة الحاكمة في بعض دول القارة، فشلت في لم شمل الدولة بقبائلها وأعراقها المختلفة، وركزت جهود التنمية على مناطق محددة ولسكان محددين، ولم تنجح في التفاعل مع أزمات متعددة أصابت الدول، منها ما هو طبيعي وما هو اقتصادي.

ودول العالم لم تهتم الاهتمام الكافي بالقارة الإفريقية في السنوات الماضية، مع أنها مهمة جداً من الناحية الاستراتيجية للسلام العالمي، فقد انصب اهتمام العالم فقط على مناطق في آسيا شهدت نمو القاعدة، ولم يضع خبراء مواجهة الإرهاب والعنف السياسي والديني، في اعتبارهم إمكانية انتقال نشاط القاعدة إلى أماكن أخرى تهدد أيضاً السلام العالمي، وتؤثر على الاقتصاد الدولي، وتهدد أمن مناطق تمد أوروبا بالطاقة. وهذه التطورات تؤكد أن الأمن الأوروبي هو المستهدف في النهاية.

وما حدث في مالي لا يخص مالي وحدها، وإنما يؤكد أن الأمن العالمي يجب ألا يتم التعامل معه بالتجزئة، وإنما هناك ارتباط كامل بين آسيا الوسطى وإفريقيا وجنوب الجزيرة العربية، أي اليمن. فهذه المناطق أصبحت الآن محوراً لنشاط تنظيم القاعدة، وما لم يتم احتواء هذا الخطر فسوف ينتقل إلى مناطق أخرى أكثر خطورة وتهديداً.

خاصة وأن أسلوب عمليات القاعدة تحول من العمليات الإرهابية في العواصم الغربية، إلى العمل الاستراتيجي للتأثير على المصالح الغربية في مناطق مفصلية مهمة لهذه المصالح. وما لم تتم المواجهة الجماعية، فإن إمارات إسلامية أخرى سوف تظهر في أكثر من منطقة في إفريقيا، وتصبح مناطق لحصار المصالح الغربية ولتهديد دول مستقرة في شمال القارة وغربها، خرجت أخيراً من مواجهات أليمة مع تنظيمات أصولية جهادية، وضعتها على شفا حروب أهلية ممتدة.

 

Email