أونغ سان سو تشي «حرمة ولا ألف راجل»

ت + ت - الحجم الطبيعي

وجدت بورما ضالتها في قائد صلب شبيه بالقادة العظام الذين لا يجود بهم الزمان إلا قليلاً، من أمثال نيلسون مانديلا ومارتن لوثر كنغ وغاندي. ووجه الشبه بين هذا القائد وأولئك، لا يكمن في الإصرارعلى المبدأ والتضحية في سبيله فحسب، بل وأيضاً بأسلوب المواجهة والنضال والمطالبة بالحقوق، وهو الأسلوب الأمضى حتى من مواجهة حكم عسكري مدجج بالسلاح حتى النخاع.

والقائد هنا امرأة تبلغ السادسة والستين من عمرها، قضت أكثر من عشرين منها في "الإقامة الجبرية"، واسمها صعب النطق والكتابة: "أونغ سان سو تشي"، لكن مقامها رفيع بين المناضلين الداعين إلى مبادئهم، والذين يأنفون اللجوء إلى العنف ويتركون قوة الحق تصدح من غير قعقعة السلاح. وهي بهذا ستكسب معركتها مع عسكر بلادها الجاثمين على صدور شعبها، وهي أيضاً من ناحية أخرى، كسبت تعاطف العالم ونالت جائزة نوبل للسلام وهي أسيرة حوائط بيتها.

وهذه المرأة الهزيلة هي "بنت أبوها" بحق وحقيقة. وهذا ما ذكرته بافتخار أمام الآلاف الحاشدة في العام 1988 وهي تدشن حملتها ضد النظام العسكري، وهو الحشد الذي ضم أطياف المجتمع كلها، ومنهم على وجه التحديد الرهبان البوذيون. وهي يحق لها أن تفتخر، فأبوها الجنرال أونغ سانغ كان بطل تحرير بورما من الهند البريطانية. لكنه قتل غيلة في يوليو 1947، في المرحلة الانتقالية قبل حصول بورما على استقلالها بستة أشهر، ولم تكن ابنته قد تخطت السنتين إلا ببضعة أشهر. وقد حُكمت بورما، التي كانت مستعمرة بريطانية تابعة للهند، معظم سنوات استقلالها بحكم عسكري.

وبورما، وعاصمتها رانغون، بلاد كبيرة (مساحتها أكثر من 676 ألف كم2)، تقع بين الهند والصين، ويسكنها أكثر من 54 مليون نسمة، معظمهم يدينون بالبوذية. وهي أيضاً بلاد غنية بمواردها الطبيعية، كالنفط والغاز الطبيعي والأحجار الكريمة والنحاس والزنك والأخشاب وغيرها، فضلاً عن المساقط المائية. غير أن حكم العسكر قد ورثها الفقر، إذ لا يتجاوز معدل دخل الفرد فيها 1300 دولار، هذا لو قسم الدخل بطريقة متساوية.

والطبيعة غير رحيمة بهذا البلد، إذ كثيراً ما تشهد زلازل قوية وفيضانات عارمة كذاك الذي ضرب البلاد عام 2008 وقتل فيه أكثر من 138 ألفاً وأصيب أكثر من ذلك بكثير، ناهيك عن الأضرار المادية. وقد زاد الطين بلة في تعقيد الأوضاع الاقتصادية لهذا البلد، فرض الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي عقوبات عليها ومقاطعتها منذ عقدين، بسبب انتهاك حقوق الإنسان فيها.

وتلقت أونغ سان سو تشي دروسها الجامعية في أكسفورد، حيث تخصصت في الفلسفة والاقتصاد والعلوم السياسية، وهناك التقت زوجها الأكاديمي ميشيل أريس، الذي رزقت بطفلين منه، وعاشا معاً في بريطانيا، غير أن بورما وأوضاعها السياسية كانت دائماً في خاطرها. وفي العام 1988 اضطرت للعودة إلى بورما حيث كانت أمها مريضة مرضاً عضالاً، فرأت نفسها وهي تنضم إلى الألوف المؤلفة الذين خرجوا في تظاهرات عارمة ضد نظام الجنرال ني ون. وفي السادس من أغسطس ذلك العام، ألقت خطبة وسط الجموع الغاضبة (والنقل عن تقرير للبي بي سي نشر 1/4) قالت فيها: "لن أكون بنت أبي إذا ظللت لا أبالي بما يجري في بلادي".

وبعد شهر تقريباً جرى انقلاب عسكري، وبعدها بسنتين نظم العسكر انتخابات عامة، كان الفوز فيها من نصيب حزبها "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية"، رغم أنها كانت تحت الإقامة الجبرية، فضلاً عن إسقاط حقها في الترشح. غير أن المجلس العسكري لم يسلم السلطة، وحبست "أونغ" في بيتها مدة ست سنوات، ثم أفرج عنها عام 1995. غير أنها عاودت نشاطها السياسي وغادرت مدينتها رانغون إلى مدينة أخرى، لإحياء لقاء جماهيري متحدية حظر السفر المفروض عليها، فما كان من الحكومة إلا أن وضعتها خلف جدران بيتها، منعزلة عن العالم خمس عشرة سنة أخرى!

ترى، كيف قضت هذه المناضلة سنواتها الطوال وحيدة في بيتها محرومة من أبنائها وزوجها؟ تجيب مراسل دير شبيغل الذي التقاها في 22 نوفمبر 2010 بعد أن أخلي سبيلها: شعرت أن من واجبي ألا أضيع وقتي، فانكببت على قراءة كل ما وقعت يداي عليه، وحسنت من إتقاني للغة اليابانية والفرنسية، وكنت أتابع الأخبار فأستمع إلى المذياع من 5 إلى 6 ساعات كل يوم. كنت أشعر بالحرية رغم قيودي، لأن الحرية هي شعور داخلي. وتقول بتواضع: كنت أفضل حالاً من آلاف المساجين الذين كانوا قابعين في السجون يعانون الأمرين.

ومن آيات صبرها وقوة عزيمتها، أنها رفضت أن تغادر بلدها بورما إلى بريطانيا في العام 1999، حيث كان زوجها يعاني سكرات الموت، وخشيت أن يمنعها المجلس العسكري من العودة إلى وطنها، فمات زوجها دون أن تراه.

فازت أونغ سان سو تشي وحزبها في الانتخابات التكميلية، التي اضطر العسكر لتنظيمها مؤخراً تحت الضغط الدولي، لتفتح طريق الحرية لبلادها.. حقاً إنها "حرمة بألف راجل"!

 

Email