سنوات التدريس

ت + ت - الحجم الطبيعي

التدريس الجامعي متعة ما بعدها متعة للمحب لهذه المهنة الشاقة، وهي كمدٌ وغصة لمن ساقته الظروف إلى مهنة المتاعب هذه. وأحمد الله أنني محب لمهنتي، خاصة الجانب التدريسي منها، مقصراً أيما تقصير في الجانب البحثي الذي هو مطمح الجميع للترقية، إلى الدرجة التي أصبح فيها الكثيرون يكتبون الغث والسمين للفوز بها، ليس إلا! لذا، نرى في حياتنا الأكاديمية العربية، جمهرة كبيرة ممن صعدوا إلى درجة الأستاذية، أعلى الدرجات العلمية في سلم التعليم الجامعي، وحينما ننظر إلى عطائهم نجده واهيا وضعيفاً. ولعل هذا ما يفسر لنا الكمية القليلة، وربما النادرة، من الأعمال الجيدة (بالمقاييس الأكاديمية العالمية) التي تخرج من أساتذة ينتمون إلى الجامعات العربية.

لكننا في المقابل، نجد أسماء عربية بارزة تظهر من خلال الجامعات الغربية، والأميركية تحديداً، التي هاجر إليها هؤلاء، مما يعني أنه ليست المهارات والطموحات الفردية هي الدافع وراء الإنتاج (حيث إن هذه الطموحات موجودة عند الجميع تقريباً)، بل الجو العلمي الذي يخلق ضغطاً على الجميع لكي يبدعوا ويتنافسوا في الوصول إلى الأفضل، الأمر الذي يؤدي إلى اختفاء تلك الأعمال الشكلية، التي ترمي إلى تحقيق الترقية بأي ثمن!

ولعل إحدى المعوقات التي تقف أمام إبداع الأستاذ الجامعي العربي، ضمن سلسلة طويلة من المعوقات، هي أن أعمالهم مهما كانت جيدة وذات أصالة معرفية، فإنها لن تلقى جمهوراً واسعاً من القراء والمهتمين والمتابعين. فالباحث الجيد الذي يؤلف كتاباً، سيكون في غاية السرور إن هو وزع منه بضعة ألوف، في حين أن زميله في الجامعات الراقية (شرقاً وغرباً)، سيلقى جمهوراً واسعاً من القراء والمهتمين الذين سيحققون لهذا الباحث مكافأة مجزية، إلى جانب شعوره بالرضى والنجاح والفوز.

ولعل قلة القراء، بل ندرتهم بالأحرى، هي التي تدفع الكثير من أساتذة الجامعة إلى التأليف السريع للكتب المدرسية لتكون مراجع لطلبتهم، فهم قد فقدوا الأمل في أن تكون كتبهم شائعة تجلب لهم بعضاً من أتعاب ما بذلوه لتأليفها وطبعها. وفي هذا المجال يلاقى هؤلاء الأمرين، ذلك أن فكرة احترام "الملكية الفكرية" غير واردة، فترى الكتاب وقد صور ووزع على الطلبة، لتضيع جهود الأستاذ ويبخس حقه، وربما عزاؤه الوحيد في ذلك أن يكون كتابه مفيداً لطلبته، إن تمعنوا في معانيه، ولم يحفظوه ليمتحنوا به ثم ينسوا ما حفظوا بعد خروجهم من قاعات الامتحان!

ونحن أضعف أمة تأليفاً وترجمة ونقلاً للتراث الإنساني العلمي والأدبي، ولا نود أن نجلد ذواتنا بذكر إسرائيل وإنتاج علمائها وكتابها الغزير، فحسبنا أن نضرب المثل بدولة شبيهة بنا، ثقافة وديناً، وهي تركيا، فإنتاجها العلمي والأدبي، المؤلف والمترجم، يفوق إنتاجنا العربي بمجمله! ولا تساهم جامعاتنا المنتشرة في طول الوطن العربي وعرضه، إلا بالنزر اليسير في حركة الترجمة، والسبب ربما لا يكون واضحاً للجمهور العام، ولكنه واضح تمام الوضوح بالنسبة للأستاذ الجامعي.

فالترجمة بحاجة إلى جهد ووقت، وإلى تضلع باللغتين، فضلاً عن فهم المادة العلمية المترجمة، والمفترض أن تعطى الترجمة مكانة لائقة في مكونات التقويم الجامعي للترقية، فالترجمة بالنسبة لنا كأمة ناهضة تريد اللحاق بالأمم المتقدمة، عنصر لا غنى عنه، بل عنصر أساسي.

وللأسف، فإن "الأكاديميا العربية" تنظر باستصغار للترجمة وكأنها من سقط المتاع! فمن المبكيات المضحكات (وشر البلية ما يضحك)، لو تخيلنا أن أحدنا حاول أن يترجم كتاب عالم الاجتماع الأميركي تالكوت بارسونز (توفي العام 1979) والمسمى: "بنية الفعل الاجتماعي"، وهو سفر ضخم من المفاهيم والأفكار المجردة، يصعب فهمها في المقام الأول ناهيك عن ترجمتها، فإن هذا العمل الضخم الذي يحتاج من المرء العمل آناء الليل وأطراف النهار، سيوازي في وزنه بحثا بسيطا عدد صفحاته لا يتجاوز العشرين، حول موضوع دارج ولنقل "استخدام الهواتف النقالة لعينة من طلبة جامعة الكويت"!

ولذلك، فإن القارئ العربي بوجه عام، والقارئ الجامعي بوجه خاص، محرومان من نتاج الفكر الإنساني، ومن هذا السيل العرم من المؤلفات التي تقذف بها مطابع العالم ودور نشره، والتي نراها على مواقع بيع الكتب من قبيل "الأمازون" وغيرها، ونتحسر ألماً من بقائها بعيدة عن متناول القارئ العربي، بسبب معوقات اللغة وعزوف مترجمينا عن نقلها إلى قراء الضاد، وقلة هؤلاء القارئين الباحثين عن الجديد.

ولعل عاملاً آخر أضحى يأخذ ألباب عقول طلابنا وشبابنا بوجه عام، ويبعدهم عن قراءة الكتب، حتى تلك التي يفرضها الأستاذ الجامعي عليهم فرضاً كجزء من المادة العلمية التي لا بد للطالب من التزود بها.. أقول إن عنصراً جديداً أصبح هو الشغل الشاغل لشبابنا، فأصبحوا يتصفحونه كما كنا نتصفح ورق الكتب "قديما"، وهذه هي وسائط التواصل الحديثة، التي ما أن أدخل إلى قاعة محاضراتي حتى أرى الطلاب والطالبات منشغلين بها!

ترى، كيف نستطيع أن نرتقي بمستوى التدريس الجامعي في ظل كل تلك المعطيات؟ سؤال يلح علي كثيراً.

Email