في الوفاء لها انتماء للوطن

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن حب الوطن والوفاء له والانتماء لترابه، ليست كلمات تجري على اللسان وتسمعها الآذان، كما أنها ليست دفقات حماسية تنتابنا، إنها قيم عليا تحفر في العقول والقلوب، ودماء تجري في العروق وهوى النفس السوية التي لا يملك الفرد أن يقف دونها أو أن يسأل نفسه لماذا، بل يكون على استعداد لبذل روحه رخيصة فداء له.. وهل يسأل المحب لماذا أحب!

ولأن القيادة الرشيدة هي التي تقرأ بعين المواطن أولا والقائد ثانيا، أحوال مجتمعاتها وتستشعر بضمير مسؤول حاجات المجتمع لتلبيها، والتي تسعى إلى توفير الاحتياجات الأساسية لشعبها؛ من مسكن وتعليم وعلاج وضمان اجتماعي وغيره، إضافة إلى الحفاظ على ثوابت مجتمعية تمثل الضمانة الحقيقية للحفاظ على صحة البناء الوطني، هذه القيم قد تكون موجودة، ولكن بفعل العولمة وما تحدثه من نحت ثقافي، تؤدي بها أحيانا إلى حالة من الخفوت أو الذبول، لكنها لا تموت.

لذا جاءت علينا الذكرى السادسة لتولي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم دفة السفينة لإمارة دبي، التي صمدت في وجه عواصف عاتية وتحديات هبت على العالم وأخذت في طريقها أمما لها تاريخ ما زالت تترنح، وبقيت دبي تبهر العالم بتجربتها الفريدة، رغم المصاعب التي تنوء بحملها الجبال.. جاءت الذكرى بقيمة تلازمه وتدخل السرور على قلوب من بذلوا الغالي والنفيس من دون انتظار عطاء، وهي قيمة الوفاء للأم التي وضعت النبتة وصبرت على سقياها بدمع العين وألم السنين، وهي قيمة من أصول حضارتنا العربية والإسلامية.

ولكن عوامل الطمس الثقافي المحيطة بنا ضيعت بعض من ملامحها، وخاصة بين الأجيال الجديدة، لتجيء هذه المناسبة وتدق عليها وتنبه الغافل لهذه القيمة التي تتعدى في معناها شخص الأم فقط، رغم إجلالنا لها.

فمن يتعلم درس الوفاء لأمه لن يعوزه الوفاء للناس في محيطه الصغير، وسيكون الوفاء لوطنه وما يوكل إليه من مهام قيمة متأصلة في نفسه، ومن يدر الظهر لأمه وقت الحاجة، هو في الحقيقة غير مؤتمن على تلبية نداء الوطن يوم يقول حي على الجهاد. ولم لا؟ أليست الأم وطنا؟ ألم يكن بطنها هو الموطن الأول الذي عاش فيه الجنين قبل ميلاده، واستمد من دمائها سر حياته، ثم بعد الميلاد لا يعرف الطفل من الدنيا غير رائحة صدر أمه، فيأنس به ويطمئن عندما تضمه حنايا قلبها؟ وفي كبره أهناك لوعة أشد من لوعة فراق الأم؟ ألم يوص الله عز وجل بها من فوق سبع سموات؟

ألم تروَ عن النبي الكريم قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. فقال أحدهم اللَّهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب الشجر يوما، فلم أرُح عليهما حتى ناما، فحلبتُ لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبُقَ قبلهما أهلا أو مالا، فلبثتُ والقدح عَلَى يدي أنتظر استيقاظهما، حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللَّهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه مِنْ هذه الصخرة.. فانفرجت عنه.

في يقيني أن ترسيخ قيمة الوفاء للأم، هو ترسيخ لقيمة وطنية قبل أن تكون قيمة إنسانية، والتاريخ يقص علينا أن كل من ضيع مقدرات وطنه وغامر بمستقبله وتنكر لشعبه، هو في الأساس لم يكن وفيا لأمه.

وليسمح لي القارئ أن أقص عليه ما حدث في أحد الأعراس في الكويت ـ حسب ما نشرته جريدة "الرأي" ـ حين قادت المشاعر الجياشة لأم العريس إلى مغالبة السن والإعاقة في ساقها، فاندفعت تشارك الراقصات رقصهن أمام "كوشة" ابنها وعروسه، ولم تمض دقائق حتى سقطت أرضاً.

بعد أن عجزت ساقها المعاقة عن تحمل فرحتها الراقصة، وهو المشهد الذي انتزع الضحكات الهستيرية من أفواه نساء الفرح، فانتفض المعرس من مقعده في الكوشة، وسارع إلى أمه فأنهضها من الأرض، وانحنى على يديها ورجليها تقبيلاً في صورة للوفاء، وعنف عروسه أمام الملأ، لأنها شاركت الحضور الضحك، للدرجة التي كاد أن يتحول معه العرس إلى التفكك وافتراق العروسين لولا تدخل الحكماء.

وبينهم والدتا العريس والعروس، الذين أزاحوا الغضب بعيدا قائلين: إن من لديه هذا الوفاء والحب لأمه هو مؤتمن على الحفاظ على ابنتنا، فالفضيلة كل لا يتجزأ، ومن لا يحمل وفاء لأمه فلمن بعدها سيكون، واستكمل العرس. وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع مسلك العريس وعروسه، إلا أن المتفق عليه ما قالته والدة العروس. وهذا هو النفس العربي الذي يميز مجتمعنا.

والشاهد أن تلك المعاني في المجتمعات الغربية لا يلقى إليها بال في أسر ينفرط عقدها عندما يصل أبناؤها سن الثامنة عشرة، وربما قبل ذلك، ومنهم من مات وليس بجواره غير كلبه، فأوصى له بما لديه من مال. وهنا أتذكر ما قصه علي أحد الأصدقاء، أثناء بعثته في بريطانيا للحصول على الدكتوراه، وهو في طريقة إلى مسكنه وجد امرأه مسنة جارة له في نفس المبنى أصابها الوهن، فساعدها حتى أوصلها إلى منزلها واستدعى لها الطبيب، ثم جاءها في اليوم الثاني يتفقد حالها فتعجبت من سلوكه، فقال لها إن مما تربينا عليه وتعلمناه عيادة المريض ومساعدة الجار. فقالت متحسرة؛ أتعلم أن ابنتي تسكن على بعد خطوات منى ولم أرها منذ عشر سنوات!

ولاشك أن هذا الجحود والتفلت الأسري، هو الخطر الداهم الذي يخشى منه الغرب على ما حققه من إنجازات مادية غابت عنها الروح، بل هو الباب الواسع لانهيار الأمم التي قال فيها شوقي: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت * فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

إن ما وجه به صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في ذكرى جلوسه، هو رسالة إعزاز وتقدير لكل أم، وهي قيمة عليا يتم التأكيد عليها، ورسالة إلى كافة المؤسسات المعنية، سواء التعليمية منها والتربوية أو الإعلامية، بالقيام بواجبها نحو ترسيخ القيم الأصيلة والمميزة لمجتمعنا، والتي تحافظ على متانة النسيج الاجتماعي الذي يبدأ من الأسرة، والأم في موقع القلب منها، والتي بصلاحها يصلح المجتمع. ألم يقل الحكيم "يكون الرجل في كبره كما هيأته أمه في صغره".

 

Email