معرض وكتاب وكلمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أسعد هذه الأيام بالحضور في معرض الشارقة للكتاب، وذلك لحضور حفل توقيع أقامته دار مدارك - ناشر كتابي الجديد المعنون اقرأ.. كيف تجعل القراءة جزءاً من حياتك، وكذلك لحضور هذه الفعالية الثقافية العربية المهمة في دورتها الثلاثين. وعلى هامش هذا الحضور المحفز للتفكير، وإن ليس بعيدا عن آفاق الكتب والكلمة، راودتني مجموعة من الأفكار التي أحببت أن أشارككم بها من خلال السطور التالية.

من يحضر معرض الشارقة للكتاب هذا العام، يستطيع أن يلمس ومن الوهلة الأولى، أن الأمر أكثر بكثير من مجرد نشاط هدفه جمع دور النشر والمكتبات وباعة الكتب في مكان واحد، ليبيعوا منتجاتهم على الجمهور، لأن من الواضح أن هذه الفعالية، بل سأقول الاحتفالية الضخمة، فيها الكثير أكثر من ذلك. هناك اهتمام واضح بتفاصيل المعرض ونظامه، وعناية بحشد الأنشطة الثقافية المصاحبة له، سواء المحاضرات أو الورش النقاشية، أو التسهيلات المقدمة لإقامة حفلات التوقيع لمختلف الكتَّاب، أو العروض الفنية المصاحبة للمعرض والتي تستهدف الكبار والصغار، وغير ذلك.

من يزور هذا المعرض سيدرك في ملامح كل شيء، أن خلف هذا النشاط البديع تقف إرادة أصرت على أن تقدم شيئاً حقيقياً مختلفاً، بعدما تملكها شغف وعشق صادق للكتاب والفكر والثقافة. وإن كان بالطبع، لا تزال هناك مساحات متاحة لمزيد من التطوير، ولكن ما رأيته ولمسته من إنجازات طيبة، يجعلني واثقا أن كل نقص هو في طريقه إلى الاستكمال والتطوير بإذن الله، طالما ستظل واقفة خلفه هذه الجهود المباركة، التي يستحق أهلها، وعلى رأسهم راعي هذه المسيرة الثقافية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، جزيل الشكر والثناء لما قدموه للمعتنين والمهتمين بهذه العوالم الجميلة.

****

الناس اليوم في عزوف عن القراءة، وذلك لأسباب متنوعة، لا تتسع المساحة لتناولها جميعاً، ولكن سأكتفي بأن أذكر على سبيلها أن أدوات ووسائل التقنية الحديثة، من تلفاز وفيديو وإنترنت وهواتف ذكية محمولة مع تلك الآلة التسويقية الجبارة التي تدعمها بقوة، نافست الكتاب وتجاوزته بشكل ساحق، بل وصار هناك من يعتقد جازماً أنها تقدم لمستخدمها الثقافة والمعرفة الكافية ممزوجة بالمتعة، عبر الوسائط المتعددة من صوت وصورة ثابتة ومتحركة، ناهيك عن كونها أشركته في دائرة التفاعل، حيث أصبح أكثر قرباً، ليس فقط من المعلومة التي يريد، بل من ناشر المعلومة وكاتبها، وأضحى قادرا على التواصل معهم جميعا بشكل مباشر وسريع.

 هذا العالم المثير، الذي شعرت بإثارته وأنا أكتب عنه، فما بالكم بمن يعيشه طوال يومه، صار العذر الأسهل لكل من ترك القراءة من خلال الكتاب، سواء لمن يسأله أو حتى لنفسه، فقد غدا يعزي نفسه دائما بأنه ليس في انقطاع عن القراءة والمعرفة في الحقيقة، بل هو يقرأ ويتعلم طوال الوقت من خلال هذه التقنيات الجديدة!

هذا الكلام أؤمن شخصياً بأنه غير صحيح أبدا، لأن هذه التقنيات، وعلى الرغم من كل جاذبيتها وتطورها، لا تقدم تلك الجرعة المعرفية العميقة التي يقدمها الكتاب، لأن طبيعتها قائمة على فكرة الرشقات السريعة والتنقل السريع بين المفردات، عبر ما تتيحه من روابط ووصلات تنتقل بمستخدمها من صفحة ومن موقع ومن برنامج ومن قناة إلى أخرى، بكبسة زر وفي لمح البصر. لكنني مع ذلك لا أستطيع أن أقدم الكتاب، وبشكله التقليدي الحالي بديلا عنها، لأني أدرك وأعترف بأن الكتاب حين نقارنه بها، سيظل وسيلة باردة لا يشعر بحرارتها واللذة في تصفحها والسياحة فيها، إلا عشاق الحرف والقراء النهمون.

ولهذا فمن الواجب أن يتم تسويق الكتاب في عصرنا اليوم كأي سلعة عصرية أخرى، وبالأخص تلك السلع المنافسة، لأن الفكرة القديمة القائلة: إن القيمة الثقافية الكامنة في ذات الكتاب كفيلة بتسويقه، وإن الكتاب الجيد سيفرض نفسه، ما عادت صالحة أبدا، ولست متأكدا إن كانت صالحة أصلا في أي وقت من الأوقات. الكتاب اليوم بحاجة إلى تسويق وتطوير كبيرين، في ظل المنافسة التي ذكرت، لأنه بصورته التقليدية سيظل بعيدا عن منافسة تلك الأدوات والوسائط الحديثة، ولهذا فمن المهم تسويق الكتاب عبر الإعلانات المستندة إلى الخبرات المتخصصة في مجال التسويق، وقبل ذلك إلى تطوير الكتاب على كل صعيد، سواء على مستوى المحتوى لكي يتواءم مع اهتمامات الناس وما يثير فضولهم ويستدرجهم للقراءة، أو على مستوى الإخراج وطريقة وجودة الطباعة، فقد ولى زمن الطباعة التقليدية ذات الحروف الصغيرة المرصوصة في تلك الأسفار الضخمة، وصرنا إلى زمن السرعة الذي يتطلب كتباً متوسطة وصغيرة الحجم جاذبة شكلاً وموضوعاً.

الكتاب العربي التقليدي وناشره، يواجهان اليوم منافسة غير متكافئة ولا شك، والكفة مائلة بشكل كبير ناحية منافسيهم، لذلك بقاء الناشر العربي متمسكاً بذات الأساليب القديمة في صناعته، ستجعلنا نراه وقد سقط بالضربة القاضية خلال سنوات معدودة، ما لم يتخلَّ عن عناده فيسارع إلى تقبل الأفكار الجديدة والأخذ بالأساليب الحديثة، التي منها النشر الإلكتروني والكتاب الرقمي والكتاب التفاعلي، وغيرها الكثير مما يحمله رحم المستقبل القريب!

****

مشروع «كلمة» للترجمة من هيئة أبوظبي للتراث، مشروع رائد عظيم بحق. فهذا المشروع الذي يعتني بترجمة الكتب من مختلف اللغات العالمية إلى العربية، مستمر في إثرائنا بكتب قيمة من مختلف التخصصات وفي جميع المجالات. مشروع كلمة البعيد عن الهدف الربحي المجرد، هو مشروع نهضوي جبار من طراز رفيع، كلما زرت جناحه في أحد معارض الكتب، شعرت بالفخر والاعتزاز لكونه مشروعاً خليجياً جاء على هذا المستوى المتميز. تحية تقدير كبيرة لرعاة هذا المشروع وللقائمين عليه، وجزاهم الله خيرا على ما قدموه ويقدمونه من جهود، شكلت علامة فارقة في جبين الثقافة العربية.

 

Email