مقارنة دور المجتمع المدني بين منظومتين

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن تعبير المجتمع المدني الذي يستخدم اليوم على نطاق واسع في العالم هو في الأصل تعبير أطلقه الفيلسوف الايطالي انتونيو جراميس في أعماله بعنوان «مذكرات السجن». وما كان يعنيه جراميس بتعبير المجتمع المدني هو تلك المكونات للمنظمات الخاصة التي لا تعمل في الخدمة الرسمية بالدولة. وتطور مفهوم المجتمع المدني مع تطور المجتمعات نفسها، ففي حالة المجتمعات في الدول المتقدمة نجد المجتمع المدني متطوراً، ويعمل كمنظومة واسعة وقوية محصنة تقف خلف الدولة. أما في الدول النامية حيث المجتمع المدني يمثل قطاعاً محدوداً من مجموع السكان، فإن الدولة تحتمي بالقطاعات الأوسع من عامة السكان. ذلك ما نشهده في الدول العربية كجزء من الدول النامية اليوم حيث تسعى منظمات مجتمع مدني للاسهام في إصلاح الدولة عبر التداول السلمي للسلطة، في حين ان الدولة تحاول ان تحمي نفسها بأن تستمد شرعيتها من القطاعات الأوسع من عامة السكان.

وبالنظر إلى السياق التاريخي، نجد ان الدولة نشأت بعد وقت طويل من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي اعتملت في المجتمعات الاوروبية المتقدمة. إذ تبلورت مع الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر والتي سارعت الخطى في ظل الثورة الفرنسية في عام 1789، تلك الثورة التي حلت علينا ذكراها الـ222 هذا العام، حيث تم الخلاص من التركيبة الاجتماعية الاقطاعية التي تميزت بها القرون الوسطى في أوروبا وذلك بفضل بروز الاقتصادات الحضرية الصناعية الجديدة. وكانت النتيجة تحولاً هاماً في البنية الاساسية لهذه المجتمعات. ونلاحظ انه قد تطلب الأمر حوالي قرنين للتحول الى دول الأمم الحديثة التي تبلورت حتى نهاية القرن التاسع عشر. بذلك فإن الدولة واقتصاد السوق ووسائل الاعلام قد تطورت كهياكل للنظام في الدول المتقدمة على ارضية المجتمع المدني الحديث.

وبتفحص لعلاقة المجتمع المدني بالدولة على اساس هذه الخلفية التاريخية، نستطيع أن نجري المقارنة بين نشأة المجتمع المدني بعد حوالي مئتي عام في الغرب وعلاقته بالدولة، مقارنة بدور المجتمع المدني في المشرق. ان الحقبة الاستعمارية لم تشجع على التحول الاجتماعي لدول الشرق في العصر الحديث. ان البنيان الاجتماعي للاقطاع الزراعي الذي يعود الى القرون الوسطى لم يشهد تحولاً، حيث انه كان من مصلحة المستعمرين ابقاء التخلف الاجتماعي لدول الشرق لتتمكن من استخراج واستغلال ثرواتها الطبيعية دون اعتراض من شعوب تلك المستعمرات. وبعبارة أخرى فإن الدول في المشرق بما فيها الدول العربية لم يتبلور فيها المجتمع المدني بالقدر الكافي.

ان السياسيين قادوا كفاح شعوب البلدان النامية في القرن العشرين في مواجهة الاستعمار وحظوا بدعم الجماهير الشعبية. الا انه من المهم ان نلاحظ ان الجماهير التي ابقاها المستعمر تعاني من الجهل والتخلف، من الصعب ان تجد فيها ما يمكن تصنيفه بمنظمات المجتمع المدني في تلك الفترة. وظل هذا الوضع يسحب نفسه بعد قيام الدول المستقلة في البلدان النامية التي يغلب عليها المجتمعات الفقيرة والتي تتميز بمستويات العيش المتدنية في المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها. ويميز عدد من علماء الاجتماع فيما يخص علاقة الدولة بالمجتمع بين الدول المتقدمة والنامية. ففي الدول النامية تصنف العلاقة باعتبارها اقل نمواً، وفي الدولة المتقدمة تصنف باعتبارها اكثر نمواً.

ان الشعوب الاقل نمواً ظلت تعول على الدولة وتتطلع اليها وتربط املها بها بعد نيل الاستقلال، لإحداث عمليات التنمية. وتأمل من الدولة ان تستثمر في كافة البنى التحتية والتصنيع والبناء في المدن الحضرية وإزالة الفقر وتقديم الخدمات الصحية والتعليمية لتطوير بلدانهم. إن عقوداً من التحولات الاقتصادية اللاحقة بلورت مجتمعاً ناشئاً في الدول النامية. إلا أننا نشهد التباين الراهن من حيث إن الدولة في الدول النامية تؤكد على ان لديها تفويضاً شعبياً من قطاع الجماهير العامة الاوسع، في حين أن منظمات المجتمع المدني التي ما زالت تشكل قطاعاً محدوداً في هذه الشعوب تحاول ان تجد لنفسها مكاناً تستطيع من خلاله ان تقود الرأي العام نحو الاصلاح والحكم الرشيد ومناهضة الفساد والدفاع عن حرية التعبير. ونخلص أنه من المهم فهم كوابح دور المجتمع المدني في محاولة التغيير في منطقتنا. إذ إن منظمات المجتمع المدني في الدول النامية ما زالت تحتاج الى توسيع دورها وامامها شوط كبير ألا تكون ممثلة للنخب الاجتماعية فقط، وحتى تحقق التفاعل مع الجماهير الشعبية وبذلك تكون بحق حاملة آمال القطاعات الاوسع من السكان. وسيتجسد ذلك حينها بالتفويض الواضح من الجماهير لمنظمات المجتمع المدني ونجاح مرشحي المجتمع المدني في أي انتخابات برلمانية نزيهة. ومتى ما تتقدم منظمات المجتمع المدني وتقدم المثل باعتبارها المؤسسات الواعية فإن انتصارها سيأتي تباعاً في إحداث الانتقال السلمي للسلطة وستتفاعل الدول ومؤسساتها معها وسيحدث التغيير المنشود وبالطريقة الملائمة.

 

Email