قيم الأخلاق والميزان العسكري

ت + ت - الحجم الطبيعي

في بحثه عن «العبودية قبل بعثة الرسول» يقول الدكتور راغب السرجاني: «ما فَتِئَت الحرب تشتعل بين حين وآخر بين القبائل العربية بدافع العصبية والقَبَليَّة، ومما لا شَكّ فيه أنّه كان لهذه الحروب المستمرَّة نتائج وَبِيلَة على الفريق المنهزم؛ .

وذلك لما يترتّب على الهزيمة من سبي النساء والذريَّة والرجال إن قُدِر عليهم، وقد يتم قتلهم، أو استرقاقهم وبيعهم عبيدًا، ولم يكن هناك ما يُسَمَّى بالمنِّ عليهم أو إطلاق سراحهم دون مقابل، وكانت الحروب تمثل أَحَدَ الروافد الأساسيَّة لتجارة العبيد التي كانت إحدى دعامات الاقتصاد في الجزيرة العربية، أمَّا الدولة الرومانية فلم يكن العبيد فيها بأفضل حال لدرجة أن الفيلسوف أفلاطون نفسه صاحب فكرة المدينة الفاضلة كان يرى أنه يجب ألا يُعطَى العبيدُ حقَّ المواطنة.

أما الدولة الفارسية فكان المجتمع مقسمًا إلى سبع طبقات أدناهم عامة الشعب، وهم أكثر من 90% من مجموع سكان فارس، ومنهم العمال والفلاحين والجنود والعبيد، وهؤلاء ليس لهم حقوق بالمرة، لدرجة أنهم كانوا يربطون في المعارك بالسلاسل؛ كما فعلوا في موقعة الأُبلَّة نسبة لبلدة على شاطئ دجلة البصرة، وهي أولى المواقع الإسلامية في فارس بقيادة خالد بن الوليد»..

تلكم كانت صورة المشهد العام والتي كان فيها الميزان العسكري متأرجحا بين دولتي الروم والفرس وكانت جميع القبائل العربية على هامشه في بداية دعوة الإسلام وكان المسلمون الأوائل هامشا عسكريا بالنسبة لقوة القبائل العربية، فكيف لهامش الهامش أن يسود على القبائل العربية أولا.

ومن ثم القوتين العظميين بنهاية زمن الخلافة الراشدة التي لم تزد على ثلاثين سنة؟ قلب الموازين العسكرية في تلك المدة الزمنية القصيرة ليس له تفسير بمعايير ذلك الزمان أو زماننا هذا بناء على عناصر موازين القوة العسكرية الصرفة أي حد السيف فقط .

وهذا الحدث التاريخي يدحض بجلاء ما يردد في معظم الأدبيات الغربية وفي وسائل الإعلام الغربية بأن الإسلام انتشر بحد السيف، والتفسير الوحيد الذي يصمد عقلا ومنطقا أمام أي تحليل هو قيام الدعوة الإسلامية على قاعدة أخلاقية عالية اكتسحت ما كان سائدا من قيم أخلاقية خاسرة لفسادها وجورها بين القبائل العربية ودولتي الرومان والفرس فدخلت الأمم في دين الله أفواجا.

. فانتشار الإسلام كان لما بيّنه رب العزة في كتابه العزيز: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم.» وكما بين المولى كذلك توازن العلاقة بين أصحاب المعتقدات دون تعدّ في صورة الكافرون: «لكم دينكم ولي دين». . 

لا شك أن السيف الفاتح المدافع كان له دور حاسم لصيانة أمن الدولة كما هو حال جميع الدول ولكنه كان هامشيا بالمقارنة، والانتصارات في الفتوحات الإسلامية كانت مصداقا لقوله تعالى: «وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله».

لهذا كتب للفتوحات الإسلامية البقاء وبقي المعتقد الإسلامي بعد انحسار السلطة الإسلامية عن تلك المناطق، بينما فتوحات الاسكندر الأكبر انتهت بموته ولم تترك تلك الفتوحات أثارا في المجتمعات التي فتح؛ ذلك أن فتوحاته كانت فتوحات حد السيف وكذلك كانت فتوحات التتار. لما سبق يمكننا القول بأن مبدئي حقوق الإنسان واللا عنف قد أرستهما الدعوة الإسلامية اسما .

وفعلا، أما المهاتما غاندي الذي كان مطلعا على الإسلام وتاريخه، الذي ينسب له مبدأ اللا عنف خطأ، لا ينكر فضله التاريخي في تحرير القارة شبه الهندية من سلطة بريطانيا العظمي التي لا تغيب عنها الشمس، إلا أن إنجازه لم يكن قرينا بأي مستوى بما حققه الإسلام فتحرير شبه القارة الهندية لم يقلب حينها موازين القوى العالمية، كما كان التفوق العددي الكبير في شبه القارة الهندية في كفة دعوته.

أما ما لبد سماء تاريخ الإسلام من انحطاط أقوال المتفاقهين دينيا الذين فتحوا دكاكينهم لكل مذهب يبتغون به أثمانا قليلة، ومن هزمهم الإسلام على مر العصور أرادوا سلب روح الإسلام لعدم قدرتهم على مواجهته حفاظا على مصالحهم فجلب الفريق الأول العثرات من منابرهم والفريق الثاني الفتن بنفاقهم.

ومن جحورهم وتنظيماتهم السرية. أما المؤدلجين سياسيا في عصرنا الحديث فقد استوردوا مناهجهم المختلفة من الغرب التي لا تمت لتاريخنا وهويتنا كما هي دون دروس معمقة للموائمة مع مجتمعاتنا فلم يلموا بمعطيات العصر ويستقوا من صافي المنبع محكومين في كثير من الأحيان بأنانياتهم المادية أو الفكرية فكان نتاج ممارساتهم على مدى الستين عاما الماضية ما وضعنا في مؤخرة الأمم وأفقدنا احترام العالم بسبب قصور علمهم ونظرهم السياسي.

إن ما يمر بعالمنا العربي من انهيارات الجمهوريات التي اعتمدت النظم البوليسية وجبروتها أمام الصدور العارية وما تلا من إرهاصات ليس إلا ملمحا واحدا صغيرا من ذلك الدرس التاريخي العظيم الذي شهده العالم ببزوغ الإسلام يعيد نفسه ويفتح صفحة جديدة إنشاء الله تجب وتمحي الصفحات الإرهابية، التي ألصقت بالمسلمين زورا وبهتانا، بالعمل الجاد والتطوير والارتقاء البناء المرتكز على الواقع استنادا إلى تاريخنا وتاريخ العالم ومعطيات العصر الذي نعيش.

 

تلخيصا لما سبق علينا أن نقرأ قول الشاعر قراءة ليست من باب التكرار غير الواعي كاسطوانة مشروخة كما تعودنا، ولكن قراءة جديدة واعية مستدركة عمق المعاني التي أراد الشاعر إيصالها ولكننا لم نوفق في إدراكها فعسانا نوفق اليوم حيث يقول:

 

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

 

من خلال التاريخ نستبين أن الإسلام كان ملهما للهندوسية بابتداع طائفة السيخ في الهند وكذلك حال ابتداع البهائية، كما كان الإسلام مؤثرا بدرجات أقل وضوحا في معتقدات أخرى، واليوم نسمع عن فرنسة أو أمركة الإسلام (نسبة لفرنسا ولأميركا)، إلا أن الإسلام أكبر من أن يستنسخ دون روحه أو أن يكون مناطقيا أو لدول بعلامات تجارية فارقة أو لها حقوق أدبية أو فكرية أو حكرا لفهم أي حزب أو متحازبين أو أي طائفة أو أي مذهب إسلامي؛ بل جميعهم عالته بدرجات متفاوتة من التوفيق والصواب وفي ذلك تنافس، ويتنافس المتنافسون وهذا سر خلوده وبقاءه وهو للعالمين.

النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.

Email