ما بعد القاعدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أزعم أن تنظيم القاعدة بعد مقتل زعيمه أسامة بن لادن، لن يكون هو نفس التنظيم في وجود الزعيم، فهناك العديد من التغييرات سوف تطرأ على التنظيم وأدائه وأهدافه وتحركاته، بل ومجالات عمله من النواحي الجغرافية والسياسية والعسكرية. وهذا الزعم ينطلق ليس فقط من أن زعامة جديدة سوف تتولى قيادة التنظيم، وبالتالي سوف تضفي طابعها الشخصي عليه مثلما يحدث عند أي تغيير في التنظيمات السياسية أو الحزبية، ولكن لأن هناك متغيرات تفرضها الظروف الحالية، والتي دخلت فيها المواجهة بين القاعدة والولايات المتحدة الأميركية مرحلة جديدة.

وليس متوقعاً أن ينهار التنظيم أو أن يحل نفسه، ولكن يمكن القول إن قاعدة ما بعد وفاة ابن لادن لن تكون هي قاعدة ما قبل هذا التاريخ، بما يجعل الحديث عن ما بعد القاعدة صحيحاً وله مبرراته، خاصة وأن التنظيم كان يضم تنظيمات أخرى تابعة، لها مجالات عملها ولها تنظيماتها المستقلة، وكانت تبعيتها له لا تتجاوز التبعية الرمزية أو المعنوية، مثل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وأخرى في بلاد أخرى، سواء في دول إفريقية أو آسيوية، وليس معروفاً ما إذا كانت هذه التنظيمات سوف تحرص على وجودها في القاعدة بعد غياب ابن لادن، أم أنها سوف تعود إلى سيرتها الأولى وتعمل بصورة مستقلة مرة أخرى.

والذي يدفع المراقبين إلى طرح هذا السيناريو، هو أن شخصية أسامة الكاريزمية كانت الدافع الأساسي وراء إعلان عدد من هذه التنظيمات الانضمام إلى القاعدة. وبالتالي فإن غيابه يمكن أن يدفعها إلى الاستقلال مرة أخرى، ولكن هذا الأمر يتوقف على الزعامة الجديدة التي ستتولى القيادة من بعده. فهناك من يرى أن تولي ايمن الظواهري الزعامة يمكن أن يجعل الأمور تستمر كما هي، أي أن تستمر التنظيمات التابعة في القاعدة، لأن الظواهري من وجهة نظر معظم هذه التنظيمات قيادة تاريخية في القاعدة، أما اختيار خليفة مختلف لابن لادن فسيجعل للعامل الجهوي أو الإقليمي دورا مؤثرا يمكن أن يحدث خلافات أو انقسامات تؤدي إلى تأثيرات سلبية في التنظيم.

ومن المفيد الإشارة إلى أن تنظيم القاعدة بسبب طبيعته واستهدافه من قبل الولايات المتحدة، يعد بمثابة صندوق أسود لا يعرف أحد ما يدور داخله من تفاعلات، بل وصراعات، ولا يعلم أحد توازنات القوى داخله، وهل هي مبنية على أسس جغرافية أم فكرية وإيديولوجية؟.

وبالتالي فإن ما تم تسريبه من معلومات حول الشخصيات المرجح لها أن تتولى قيادة التنظيم بعد أسامة بن لادن، يمكن أن تكون تسريبات من قبل أجهزة مخابرات، كوسيلة للحرب النفسية التي تهدف إلى إحداث انشقاقات داخلية في التنظيم أو إحداث فرقة بين تياراته المتعددة. كذلك لا نستبعد أن تكون أجهزة المخابرات تسرب معلومات وتستهدف حث التنظيم على الإسراع في تنفيذ عمليات، بهدف استغلال حالة عدم التوازن التي أصابته بعد مقتل ابن لادن، من أجل الإجهاز عليه.

لقد أصبح تنظيم القاعدة على المحك، وهناك من يرى أنه أصبح عليه أن يحدث قطيعة تامة مع قاعدة ما قبل وفاة ابن لادن، وذلك حتى يستطيع أن يواجه تحديات المواجهة الحالية مع الولايات المتحدة الأميركية. فبعيداً عن العامل الرمزي والمعنوي في مقتل ابن لادن، فإن عملية القتل أكدت أن هناك اختراقا ما من الولايات المتحدة للتنظيم، فضلا عن أنها أصبحت تعرف الكثير عنه وعما يجري داخله، وبالتالي فإن متطلبات المواجهة وتحدياتها تتطلب هذه القطيعة، أي أن تدخل القاعدة في مرحلة ما بعد ابن لادن، وهو ما يعني أننا قد أصبحنا بالفعل في مرحلة ما بعد القاعدة ذاتها، لأن مهندس التنظيم ومؤسسه رحل.

لقد كان تنظيم القاعدة أشبه بشبكة من التنظيمات العنقودية ذات الاستقلال واللامركزية، لكنها كانت في الوقت نفسه في قبضة ابن لادن، يستطيع أن يديرها ويؤثر في عمليات صنع القرار فيها، وكان ذلك يتم بآليات مختلفة. فهل هناك زعيم آخر في التنظيم، حتى ولو أيمن الظواهري، يستطيع أن يدير هذه الشبكة بهذه الآلية من دون حدوث خلل؟ نعتقد بأن الإجابة هي؛ لا.

فالتنظيم لا بد وأن يدخل إلى مرحلة تختلف جذريا عنه في السابق، حتى يستطيع التكيف مع متغيرات عديدة حدثت، سواء في ما يتعلق بالتعامل مع عناصره من قبل الدول التي أتوا منها، حيث أصبح يواجه شحاً في التجنيد، أو من خلال الإجراءات التي اتخذت بهدف تجفيف منابعه على الصعيد الاقتصادي، وكان وجود أسامة بن لادن وسط كل ذلك يعطي للعناصر أمانا نفسيا وإحساسا بالاطمئنان.

وبالتالي فإن معظم المؤشرات يؤكد أن تحولا كبيرا سوف يطرأ على تنظيم القاعدة، ولعل هذا الأمر هو سبب لارتباك كبير على الجانب الآخر، أي الولايات المتحدة التي لا تدرك طبيعة التنظيم الذي سوف تواجهه في المرحلة المقبلة، وهي متأكدة من أنه لا بد وأن يسعى لأن ينتقم لمقتل زعيمه السابق. ومن الممكن القول إن تدشين مرحلة ما بعد القاعدة سيكون في أعقاب هذا العمل الانتقامي، الذي لا يعرف أحد توقيته ولا مكانه ولا طبيعته، لكنه سيكون إعلانا عن مرحلة جديدة من القاعدة تمثل قطيعة تامة مع المرحلة السابقة.

Email