الثورة المضادة

ت + ت - الحجم الطبيعي

شاع مصطلح الثورة المضادة مع نجاح الثورات العربية في إسقاط الأنظمة، وأصبحت القوى الثورية تعزو العديد من التحركات المقصودة أو غير المقصودة، إلى الانتماء إلى الثورة المضادة، وهو الأمر الذي يتطلب الإجابة عن سؤال مركزي هو؛ هل تتعرض الثورات العربية فعلا إلى ثورة مضادة؟ والإجابة على العموم هي؛ نعم، الثورات العربية تتعرض إلى ثورة مضادة، ذلك أن منطق الثورات هو أنها تتعرض إلى ثورة مضادة، فليست هناك ثورة إلا وتعرضت إلى ثورة مضادة لها.

فالثورة الفرنسية تعرضت إلى أخرى مضادة، وظلت ‬7 سنوات حتى استقرت أوضاعها. بل هناك من المحللين المصريين، مثل الدكتور غالي شكري على سبيل المثال وليس الحصر، من كان يعتبر أن سياسة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، هي ثورة مضادة على ثورة ‬23 يوليو، وأن من قام بها هم فلول نظام ما قبل الثورة الذين ظلوا بمثابة قوى مستترة داخل نظام يوليو، الذي اعتبرهم جزءا من تحالف قوى الشعب العامل.

وهم لم يكونوا كذلك. وهناك أيضا من يعتبر أن الثورة الإيرانية نجت من الثورة المضادة، بسبب عملية التطهير التي مارستها والتي راح ضحيتها عدد كبير ممن أعدموا إثر محاكمات سريعة جرت عقب نجاح الثورة، بعضهم كان من العناصر التي شاركت في الثورة فعلا، بل إن أول رئيس جمهورية إيراني عقب الثورة.

وهو الحسن بني صدر، تمت محاكمته واستطاع الهرب خارج إيران قبل تنفيذ الحكم. وهناك من القوى الثورية العربية من يطالب بتطهير أجهزة الحكم والمجتمعات، من أجل إيقاف الثورات المضادة، ولكن حكومات ما بعد الثورة العربية، في كل من مصر وتونس، لا تستطيع أن تقوم بذلك.

وهناك ثلاثة مبررات لهذا الأمر، الأول؛ أن قوى من النظام السابق لعبت دروا في إسقاطه، وهي الجيش الذي لولا انحيازه للثورة لما نجحت، وهذه القوى بطبيعتها محافظة، وليست لديها خبرة في السياسة العملية، وهو الأمر الذي يجعل حركتها وقراراتها بطيئة. وهذا المبرر يجعل البعض يقول إن النظام لم يسقط كاملا مثلما حدث في إيران، وبالتالي فإن عملية التطهير لا بد وأن تكون صعبة، إن لم تكن مستحيلة.

أما المبرر الثاني، فهو أن القوى الحاكمة في مرحلة ما بعد الثورة، من القوى الديمقراطية التي طالما خرجت ضد الأنظمة من أجل المطالبة بالديمقراطية والنزاهة والعدالة والمساواة، وهي بالتالي لا يمكن أن تؤيد أي إجراءات استثنائية يمكن أن تشكل انتهاكا لحقوق الإنسان، مثل المحاكمات الاستثنائية أو التحفظ على متهم من دون دليل قوي.

وهو الأمر الذي أعطى لقوى الثورة المضادة إحساسا بأن يد العدالة لن تنالها قريبا وبالتالي أحسوا بالأمان، الأمر الذي زاد من ممارسات الثورة المضادة، خاصة وأن الأنظمة تتحرك وهي تشعر بأن العالم يراقبها، ويسعى إلى معرفة مدى تمسكها بمبادئ حقوق الإنسان التي أصبحت بمثابة قيم عالمية، الأمر الذي غل يدها عن مواجهة الثورة المضادة بإجراءات سريعة واستثنائية.

أما المبرر الثالث، فهو أن القوى الحاكمة في مرحلة ما بعد نجاح الثورة، تدرك جيدا أن هناك قوى اجتماعية واقتصادية ومستفيدين من النظام السابق، تعشش في أجهزة الدولة، لكنها تدرك أيضا أن التدخل الجراحي في مواجهتها أمر قد يستفزها ويجعل ممارستها للثورة المضادة علنية، وبمثابة حائط الصد الأخير بالنسبة لها، واختارت القوى الحاكمة أسلوبا آخر هو التدرج ومحاولة تحييد قطاعات من هذه القوى الاجتماعية عبر دفعها للاطمئنان، وهو ما يمكنها من محاصرة وعزل الأجنحة الأخطر في الثورة المضادة، وهي الأقل عددا لكنها الأكثر خطورة، وهي ترى أن هذه الخطوات وحدها كفيلة بالقضاء على الثورة المضادة.

والمنطق الذي يرى أن هناك ثورة مضادة تواجه الثورات العربية منطق متماسك، ليس فقط لأن كافة الثورات تواجه مثل هذه الحالة، ولكن لأن الأنظمة التي أسقطت، ظلت في الحكم لعقود طويلة استطاعت خلالها أن تكوّن شبكة من المنتفعين القابعين في أجهزة الدولة، مثل الأجهزة الأمنية التي حصلت على مميزات عدة في ظل تحول الدولة قبل سقوط النظام إلى دولة بوليسية.

وهذه المميزات كانت على الأصعدة المالية والاجتماعية والاقتصادية، بل وشكل بعض الأنظمة فرقا أمنية تدين بالولاء للحكام فقط أو لبعض أجنحة الحكم وليس للدولة، وهو الأمر الذي جعلها تشعر بالخطر من تغيير النظام وتسعى إلى الإبقاء عليه، سواء بشخوصه أم ببنيته السياسية والاجتماعية.

وقام بعض الأنظمة بتشكيل ميلشيات خاصة من البلطجية، بهدف حماية النظام في مرحلة ما، وهو ما أحدث فوضى بعد سقوط النظام، حيث شعرت هذه الفرق بالخطر ومارست البلطجة كوسيلة للتعبير عن وجودها، وكرد فعل تلقائي على الفراغ الذي شعرت به عقب سقوط النظام.

والسؤال المرتبط بما نتحدث عنه، هو؛ هل هناك أي فرص لنجاح الثورات المضادة في مواجهة ثورات الشعوب العربية؟ والإجابة هي أنه على الرغم من أن الثورة المضادة تعبر عن قوى اجتماعية نافذة ومؤثرة، وعلى الرغم مما لديها من وعي بمصالحها، إلا أن معاناة الشعوب على مدى عقود من النظم التي سقطت، سواء في ما يتعلق بعدم توفيرها الحد الأدنى من الحياة الكريمة، أو ما شاب حكمها من فساد سياسي واقتصادي ومن استبداد وانتهاك لأبسط حقوق الإنسان، يجعل محاولات الثورة المضادة محكوما عليها بالفشل، لكنه في نفس الوقت يؤكد أن معركة الشعوب في استعادة حقوقها طويلة وتتطلب نفسا طويلا.

 

 

 

Email