حدود الثورات العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

نجحت ثورتا تونس ومصر في إسقاط نظامي الحكم، ولكن هل يمكن تكرار هذا الإنجاز في الدول العربية الأخرى التي تشهد انتفاضات شعبية ضد أنظمة الحكم فيها؟ هذا السؤال أصبح مطروحا على المحللين المهتمين بالشأن العربي، بعد التحليلات الأولية التي قالت إن الدول العربية تشهد ظاهرة تسونامي سياسي سوف يطيح بمعظم أنظمة الحكم، خاصة تلك التي تأبدت في مواقعها لعشرات السنين.

ومن المفيد ونحن نحلل الثورات العربية، أن ندرك أن لكل بلد عربي تشكيلة اجتماعية وثقافية مختلفة عن الآخر، وأن مصر وتونس بالذات لهما خصوصية محددة، تتمثل في أنهما أكثر الدول العربية تجانسا من الناحية الاجتماعية، وهذا الأمر ساعد على سرعة تجمع السكان على مطالبهم المتعلقة برحيل نظامي الحكم. يضاف إلى ذلك أن درجة التعليم العالية في البلدين مقارنة بدول عربية أخرى، والتجربة المدنية الديمقراطية التي مرت بها الدولتان في فترة سابقة، جعلت المواطنين يرفعون مطالب مدنية، الأمر الذي سهل نجاح الثورة في كل منهما. ويضاف إلى العاملين السابقين عامل ثالث يتعلق بطبيعة المؤسسة العسكرية في الدولتين، فهي كانت تنتمي إلى المجتمع وليس إلى نظام الحكم، ولكل ذلك علاقة بطبيعة نشأتها وتطورها، وكان موقف المؤسستين العسكريتين حاسما لإنقاذ المجتمع، وفقا لما هو منصوص عليه في دستور الدولتين، وبالتالي تخلت سريعا عن نظام الحكم إدراكا منها لرغبة الشعب في رحيله.

على النقيض من ذلك، فإن هناك دولا عربية تعاني من انقسامات قبائلية أو مذهبية أو عرقية ثقافية، تحول دون حدوث إجماع سريع في مواجهة نظام الحكم. وفي ظل هذه الانقسامات يجد الحكم قطاعات قبائلية أو مذهبية أو ثقافية، تدافع عنه وتحول دون سقوطه، وبالتالي تصبح عملية إسقاط نظام الحكم، تتطلب النفس الطويل ومرتبطة بتخلي القطاعات الموالية له عنه في مرحلة ما. كذلك فإن أنظمة الحكم هذه التي اعتمدت على الولاء القبلي أو العرقي أو المذهبي، جعلت المؤسسة العسكرية تنتمي إلى نفس الطابع كي تظل تحت سيطرتها حتى النهاية.

ففي كل من اليمن وليبيا اللتين تتعثر الثورة فيهما عن استكمال مهمتها، نجد أن العامل القبائلي هو الذي يلعب دورا في هذا الأمر، حيث إن الانتماء القبائلي لنظام الحكم في كلا البلدين، لعب دورا في إيجاد قاعدة اجتماعية وسياسية للنظام، تدافع عنه حتى ولو بالتدخل العسكري لقمع الثورة. وبالتالي فإن نجاح الثورة مرتبط بأن تخرج قطاعات من هذه القاعدة الاجتماعية عن إجماع القبيلة، وتعلي مصالح الدولة على مصالح القبيلة، وهذه القطاعات لا بد وأن تكون من المؤسسة العسكرية، لأن العامل القبائلي يلعب دورا واضحا في تشكيل القوات المسلحة في هاتين الدولتين.

وفي دول أخرى نجد العامل المذهبي هو الذي يلعب دورا في نجاح نظام الحكم، في إيجاد قاعدة شعبية واجتماعية وسياسية له، وهو ما يحول دون تمكين قوى الثورة من التوصل إلى إجماع حول مطلب رحيل النظام، ويصبح إصلاح النظام هو المطلب المطروح واقعيا، حتى ولو كان المحتجون يرفعون شعارات تطالب برحيل النظام أو إسقاطه.

وهناك دول أخرى سعت إلى الحيلولة دون انتقال الثورات إليها، عبر إجراء إصلاحات جذرية في نظامها السياسي، مثل تغيير الدستور، أو إلغاء حالة الطوارئ، أو تغيير الحكومات غير المرضي عنها شعبيا. وهذه الإجراءات يمكن أن تؤدي إلى أحد أمرين؛ الأول أن تهدأ حركات المعارضة، باعتبار أنها يمكن أن تحصل على مكاسب من الحكومات لم تكن تستطيع الحصول عليها من قبل. أما الأمر الثاني فهو أن تؤجل الحركة الثورية مطالبها مؤقتا، أو أن يحدث انشقاق داخلها حول كيفية التعامل مع سلوك الحكومات، بما يؤجل العملية الثورية فتخرج بالتالي عن «التسونامي الثوري الراهن»، وهو ما يبعد الحركة في حال استئنافها عن المد الثوري الجاري حاليا، إضافة إلى أن ذلك يعطي الفرصة للحكومات لكي تعيد تنظيم نفسها وتبحث عن أساليب سياسية أو أمنية للتعامل مع الثورات المتوقعة مستقبلا.

ومجمل القول إنه على الرغم من نجاح الثورة في كل من مصر وتونس، وعلى الرغم من أن دولا عربية أخرى تشهد حركات احتجاجية قوية تطالب بإسقاط النظم، إلا أن هناك حدودا للثورة العربية ترجع إلى طبيعة الدول التي تشهد الاحتجاجات.

فإذا كانت تحليلات متعددة عربية وغربية، حاولت تشبيه ما يحدث في الوطن العربي بما حدث عام ‬1989 في أوروبا الشرقية، عندما انهارت كافة النظم الشيوعية، فإن هناك عاملا مهما تجاهلته هذه التحليلات، وهو العامل الذي كان موجودا في كل من مصر وتونس، والخاص بدرجة التطور الحضاري المتقاربة بين النماذج التي سقطت، سواء في أوروبا الشرقية أم في مصر وتونس.

ولكن هذا التحليل لا يعني أنه ليست هناك إمكانية لنجاح الحركات الثورية في الدول الأخرى، ولكنه يعني أن الطريق لنجاح هذه الحركات الثورية سيكون أطول، ويتطلب تضحيات مختلفة، ويتطلب أيضا إبداع أساليب للتعامل مع الاختلافات الاجتماعية والحضارية والثقافية في الدول التي تشهد الثورات، والتي لم تكن موجودة في الدول التي نجحت فيها الثورات.

 

Email