الأزمات السياسية وغياب المؤسسات الوسيطة

ت + ت - الحجم الطبيعي

شهدت كل من تونس ومصر والجزائر تظاهرات شعبية في الأسبوع الماضي، ورغم أن الأسباب التي طرحها المتظاهرون في البلدان الثلاثة كانت مختلفة، ورغم اختلاف طبيعة هذه التظاهرات، فإن هناك جوامع مشتركة بين البلدان الثلاثة، تمكننا من الحديث عن نموذج سياسي مشترك، وعن خلل ما أصاب هذا النموذج. ففي كل من تونس والجزائر كانت التظاهرات ذات طابع اجتماعي، من احتجاج على تفشي ظاهرة البطالة في تونس إلى اعتراض على ارتفاع الأسعار في الجزائر. أما في مصر فقد اتخذت التظاهرات طابعا طائفيا، حيث خرج شباب الأقباط في بعض المناطق اعتراضا على تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية، محملين السلطات مسؤولية سوء أوضاعهم وعدم السماح لهم ببعض الحقوق، وعلى رأسها تعقد إجراءات بناء الكنائس أو ترميمها.

وما يجمع بين الدول الثلاث، أنها تطبق معا نظام التعددية السياسية المقيدة، التي يتحكم فيها حزب واحد في العملية السياسية، وتوجد فيها أحزاب للمعارضة لكن حريتها مقيدة، ولا يسمح لها سوى بوجود هامشي في المؤسسات التشريعية، سواء المركزية أو المحلية أو الجهوية، بما يحولها إلى مجرد ديكور للعملية السياسية. ونظرا لتحكم الحزب المهيمن (الدستوري في تونس وجبهة التحرير في الجزائر والوطني في مصر) في العملية السياسية، فإن منافذ التغيير تكاد تكون معدومة، والانتخابات التي تنظم معروفة نتائجها سلفا. وفي الدول الثلاث يسمح الدستور ببقاء رئيس الجمهورية في منصبه فترة غير محددة، بل وزاد الأمر سوءا أن مواطني الدول الثلاث ليس لديهم أي تصور مستقبلي حول حكم البلاد، في مرحلة ما بعد الرئيس الحالي.

والدول الثلاث عانت من خطر الحركات الدينية المتطرفة، التي لجأ بعضها إلى العنف وقتل الأبرياء، في عمليات إرهابية واضحة وقاسية هددت استقرار الدولة، بما نتج عنه أمران؛ الأول أن جل اهتمام السلطة انصب حول مواجهة هذا الخطر، وهو ما كان على حساب اهتمامات أخرى، منها الاهتمامات الاجتماعية وعمليات الإصلاح السياسي، الأمر الذي أوجد احتقانا اجتماعيا في الدول الثلاث، بعضه انصب لصالح الجماعات المتطرفة، لأنها استطاعت تجنيد الشباب الغاضب نتيجة للإخفاق الاجتماعي للأنظمة الحكومية. كذلك فإن هذا الوضع أوجد استقطابا سياسيا في الساحة الداخلية، ومكن السلطات من قمع المعارضة المحلية وتقييد حركتها، لأنها كلها رفعت شعار لا صوت يعلو على صوت مواجهة الإرهاب والجماعات المسلحة. وفي مصر على وجه التحديد، فإن هذه المواجهة جعلت السلطة تخشى أن تعطي للأقباط بعض الحقوق الدينية، خوفا من انتقادات داخلية تصب لصالح الجماعات المتطرفة، فضلا عن أنها في تنافسها مع هذه الجماعات، لجأت إلى تأميم الدين والمزايدة على هذه الجماعات لإثبات أن السلطة أكثر تدينا منها وأكثر خوفا على الإسلام.

أما الأمر الثاني، فهو أن السلطات الثلاث وهي تواجه خطر الجماعات الدينية المتشددة، سواء المسلح منها أم تلك ذات الخطاب السياسي، أعطت للأمن صلاحيات واسعة في كافة المجالات، وهو ما حول بعض هذه الدول إلى شبه بوليسية، وأدى ذلك إلى غياب السياسة تماما عن التعامل مع الأزمات المتعددة التي تواجهها، سواء أكانت اجتماعية أم ثقافية أم سياسية، وهو الأمر الذي زاد من الفجوة بين السلطة والمواطنين، كما أن تقييد النقابات والأحزاب أدى إلى غياب المؤسسات الوسيطة، التي من المفترض أن تكون حلقة وصل بين الدولة والمواطنين، وهو الأمر الذي أدى إلى أن التظاهرات عندما اندلعت لم يكن هناك مفاوضون أو وسطاء يثق المواطنون فيهم، لكي يتولوا عملية التدخل لوقف التظاهر وسماع المطالب التي يرفعها المتظاهرون. وخلال التظاهرات الأخيرة كان الملاحظ أن التعامل معها في الدول الثلاث اقتصر على الجانب الأمني، وغابت السياسة تماما عن الساحة.

وهذه المظاهرات التي اندلعت في الدول الثلاث، تعبر عن أزمة أصابت نمط الحكم في الدول العربية، وهو نمط التعددية المقيدة وهيمنة المؤسسة الرئاسية على كافة مؤسسات الدولة، سواء التشريعية أو التنفيذية. وهنا تجب الإشارة إلى أن الانتقال من نظام الحزب الواحد إلى هذه التعددية المقيدة، لم يكن خيارا داخليا، وإنما كان استجابة لضغوط خارجية تطالب بالإصلاح السياسي، وتم التحايل على ذلك باتباع التعددية المقيدة. وخلال السنوات الماضية، انصب الاهتمام على التعامل مع الجماعات الإسلامية المسلحة، بينما كان المجتمع يموج بتفاعلات ومطالب وتحولات متعددة لم ترصدها الدولة، لأنها تركز على أمر واحد فقط هو مواجهة الإسلام السياسي، كذلك فإنها لم تضع أي اعتبار للتطورات التكنولوجية التي استخدمها الشباب بكفاءة، وعلى رأسها الشبكات الاجتماعية مثل «فيس بوك» و«تويتر» وغيرها.

وإذا كانت الجزائر قد تراجعت عن زيادة الضرائب التي أدت إلى ارتفاع الأسعار، ووعدت السلطات المصرية بتنفيذ بعض المطالب الملحة للأقباط.. فإن ذلك يمثل جزءاً فقط من حل الأزمات، وهو حل وقتي لا يمنع من تكرار مثل هذه الأزمات مرة أخرى.

وقد أكد سقوط الرئيس التونسي (المخلوع)، رغم وعوده بتوفير ‬300 ألف فرصة عمل خلال سنتين، أن حل هذه الأزمات نهائيا، لا يكون إلا بعودة السياسة مرة أخرى إلى الساحة، عبر المزيد من الحريات للنقابات والأحزاب وحرية التعبير بصفة عامة، وعبر مراجعة نمط التعددية المقيدة لصالح حزب واحد أبدي مهيمن.. فمتى تبدأ الخطوات الأولى لهذا الحل؟

 

 

Email