مَذْهَب محمد بن راشد

ت + ت - الحجم الطبيعي

كُنتُ أقود سيارتي في مساء جميل، على أحد شوارع جزيرة نخلة جميرا في دبي، حتى تلألأت أمامي أنوارٌ كثيفة على مساحة شاسعة داخل البحر وكأنها مدينة أخرى، وبعد أن اقتربتُ منها، أدركتُ أنها أنوار ميناء جبل علي، أكبر ميناء صنعه الإنسان في العالم، ولم أتصور يوماً أن يكون ممتداً في البحر إلى هذا العمق. أكملتُ رحلتي على «طريق الهلال» وهو كاسر الأمواج الشمالي لجزيرة النخلة، وفي نهاية الطريق من الجهة الأخرى، تراءى لي بُرج العرب، ثم بُرج خليفة وباقي مباني دبي.

في رحلتي القصيرة من منظر ميناء جبل علي إلى منظر برج خليفة، حملتني ذكرياتي إلى أحد الأيام التي تناولتُ فيها الغداء في مجلس صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، حيث كان سموه مسترسلاً في حديث حول التاريخ الإسلامي أيام عماد الدين زنكي ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، وحكى لنا كيف اهتم هؤلاء بتأسيس المدارس والمراكز الحكومية، وشقوا الطرق وأسسوا بنية تحتية للبلاد التي حكموها. ثم تحدث سموه عن علاقة صلاح الدين مع ريتشارد قلب الأسد الذي كان يقود الحملات الصليبية على البلاد الإسلامية، وكيف كان حضارياً في التعامل معه رغم كونه عدوّه اللدود. قال لنا إنه رغم الحرب التي كانت مشتعلة بين الرجلين، إلا أن صلاح الدين لم يتردد في إرسال طبيبه الخاص إلى الملك ريتشارد حينما باغتته الحمى، ليُعلّم الناس أن للخلاف آداباً على المسلم أن يتحلّى بها، حتى مع أعدائه، وهي من الأمور التي يمرّ عليها أبناء اليوم دون التوقف عندها والاستفادة منها.

عندما رأيتُ ميناء جبل علي ثم بُرج خليفة، أيقنتُ ما قصده صاحب السمو الشيخ محمد في مجلسه ذلك اليوم، وهو أن الحضارات لا تقوم على أقوال الرجال بل على أفعالهم، وقد لا يفهم بعض الناس لماذا يقوم القائد بعمل ما اليوم، ولكنهم يدركون كُنهه بعد زمن، وهو ما حصل للراحل الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، عندما بنى ميناء جبل علي في السبعينات. فقد استغرب معظم من كانوا حوله، ولم يستوعبوا في ذلك الوقت حاجة دبي والمنطقة كلها في المستقبل لميناء عملاق مثل هذا. واليوم يعد ميناء جبل علي أحد الروافد المهمة لاقتصاد دبي، ولقد كان المنفذ البحري الرئيسي لدول الخليج خلال حرب «عاصفة الصحراء».

إن ميناء جبل علي وبرج خليفة ومترو دبي وطيران الإمارات وغيرها من إنجازات دبي، ليست إنجازات مادية، ولكنها ضرورة تنموية، وحاجة أساسية يجب توفيرها قبل الحديث عن النهضة والحضارة. فالتاريخ يحدّثنا بأن الحضارة الإنسانية لا تُبنى في القفار، ولا يمكن للدولة التي لا يجد سكانها سكناً مريحاً، وتنقلاً آمناً، وتكنولوجيا حديثة، أن يقرؤوا ويتعلموا ويفكّروا، فقبل أن نبني متحفاً علينا أن نُصلح الطريق المؤدية إليه، وقبل أن نملأ عقول الناس، علينا أن نملأ بطونهم أولاً.

إن ما حصل في دبي منذ تولي صاحب السمو الشيخ محمد لولاية العهد فيها عام ‬1995 وحتى الآن، أربك كثيراً من المراقبين، فكلما زرتُ جامعة أو التقيت مسؤولين ومثقفين في الغرب أو في الشرق، ينهمر علي سيلٌ من الأسئلة حول شخصية صاحب السمو الشيخ محمد، وكيف استطاع أن يحقق كل هذه الإنجازات خلال هذه السنوات القليلة.. وأذكر مرة أن أستاذاً في جامعة إنسياد في فرنسا، قال لمجموعة طلبة من الإمارات إنه يفكّر في زيارة بعض مدن الشرق ومنها دبي، لكي يعيد النظر في بعض الأطروحات الإدارية التي كتب عنها قبل مدة، حيث وجد أن هذه المدن الجديدة قد غيّرت بعض المفاهيم التقليدية للتنمية، ثم قال كلمة جميلة: «ليس كل ما نفعله في الغرب صواباً، وليس كل ما تفعلونه في الشرق خطأ».

عندما أُحدث الناس عن محمد بن راشد لا أذكر لهم إنجازاته الكثيرة، ولكني أختصرها في أعظم إنجاز له، وهو الجيل الجديد الذي أنشأه في دبي. ادخل إلى أي مؤسسة حكومية وتحدث إلى موظفيها ـ من الجنسين ـ وستأسرك لغتهم، وستبهرك أحلامهم وطموحاتهم، وستجد كفاءات رائعة، لا تكتفي بأداء أعمالها بجودة عالية، بل تسعى إلى نقل خبراتها إلى مؤسسات أخرى داخل دبي وخارجها، وإذا ما ناقشت أحدهم حول تخصصه فإنك ستجد نفسك محاطاً بمعلومات نادرة ومتخصصة، تدلّك على أن هذا الجيل الجديد لن يكتفي بالتنمية الاقتصادية التي شهدتها مدينته، بل يطمح إلى تنمية إنسانية شاملة تتعدى حدود الاقتصاد.

في دبي قلّما يُنادى مدير دائرة حكومية بلقب «سعادة»، وقلّما يلبس المسؤولون «البشوت»، فلقد علّمهم صاحب السمو الشيخ محمد أن الألقاب والثياب لا تصنع الإنجازات، بل العمل الجاد والإرادة هما اللذان يصنعانها، ولذلك ترى الجميع مشغولين، إما بتقديم فكرة جديدة وإما بتطوير أنفسهم.

إن النموذج الذي صنعه محمد بن راشد في دبي هو نموذج إنساني إلى جانب كونه نموذجاً اقتصادياً، فلقد ألقى المسؤولية على عاتق الشباب، ودفعهم للعمل وقال لهم: «إن الذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل شيئاً أبداً. لا يُزعجني أن تخطئوا، ولكن يهمني أن تتعلموا من أخطائكم».

كلّما تذكرت القصص التي رواها لنا سموه عن احترام الآخر، أشعر بطمأنينة تجتاحني، ويتسلل التصالح إلى نفسي، فلقد سمعته مرة يقول: «إننا لا نحكم على الإنسان من مذهبه، ولكن من عمله». لقد اعتنقنا مذهب محمد بن راشد، لأنه مذهب يدعو إلى السلام مع النفس أولاً، ويحض أتباعه على احترام الإنسان لإنسانيته وليس لأصله أو ماله، ويجعل التنافس مبنياً على الإنجاز لا على الألقاب. اعتنقنا مذهبه لأنه علّمنا كيف نحلم، وأعطانا فرصة كاملة، ثم دفعنا، نحن الشباب، لنساهم في بناء وطننا إلى جانب الكبار. هناك حكمة تقول: «إن القائد الناجح ليس هو الذي يجعل الناس يثقون به، بل الذي يجعلهم يثقون بأنفسهم»، أما محمد بن راشد فقد منحنا ثقة بأنفسنا، وبِهِ أيضاً.

 

 

Email