من يخاف ويكيليكس؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

انشغل الإعلام العربي خلال الشهرين الماضيين بالوثائق التي نشرها موقع ويكيليكس الالكتروني، وكان الاهتمام الأول لدى معظم من تناولوا عن هذه الوثاق، يتركز حول ما حدث، أي ما نشرته الوثائق من مواقف أميركية، وبالأخص المواقف التي وردت في التقارير التي أرسلها دبلوماسيون أميركيون إلى وزارة خارجيتهم، ومواقف السياسيين العرب كما وردت في نفس البرقيات الدبلوماسية المفترض فيها السرية. والحقيقة أن ما نشره الموقع من وثائق حول هذه المواقف لم يكن جديدا، سواء لعناصر النخبة السياسية أو الإعلامية أو للرأي العام، حيث سبق أن نشرت وسائل الإعلام الأجنبية، ونقلت عنها العربية، هذه المواقف من قبل، وإن غاب عن النشر التوثيق، وبالتالي فإن الجديد الذي أضافه الموقع الالكتروني الشهير، هو توثيق مواقف كانت معروفة من قبل.

والمعروف أن معظم ما ورد في البرقيات السرية، كان يقوله الدبلوماسيون الأجانب في جلسات سرية ويسربونه لوسائل العلام الأجنبية، لكنهم كانوا يطلبون من الإعلاميين أن ينسبوها إلى مصادر سرية حتى لا تسوء علاقتهم بالمسؤولين في الدول التي يعملون مبعوثين دبلوماسيين فيها، ومن يطالع وسائل الإعلام الأميركية والبريطانية خلال السنوات العشرين الأخيرة، أو مؤلفات الصحافي الأميركي بوب وودورد المتعددة خلال هذه الفترة، أو كتاب الصحافي الفرنسي فانسان نوزويل «سر الرؤساء»، سيتأكد من أن ما قام به ويكيليكس هو التوثيق فقط، وليس كشف المواقف.

ولم يهتم الإعلام العربي وكتابه ومحللوه، بمناقشة أو تناول التداعيات والآثار المستقبلية للإعلان عن هذه المواقف العربية الرسمية، وإن كان بعض وسائل الإعلام نقل أنباء عن أن بعض المسؤولين العرب رفضوا أن يسجل الدبلوماسيون الأجانب وقائع اللقاءات الدبلوماسية معهم، وأن الولايات المتحدة أصبحت تشعر بحرج في التعامل مع المسؤولين في الدول الصديقة، من جراء المواقف التي أعلنها الدبلوماسيون الأميركيون في برقياتهم، والتي تتسم في مجملها بالاستهزاء والسخرية من مسؤولين عرب التقوا بهم. وبالتالي فإن ما أعلن عنه جوليان أسانج مدير موقع ويكيليكس، من أن الهدف من نشر الوثائق هو إحداث تغيير في المواقف، لم يتحقق، بل ونستطيع أن نزعم أنه لن يتحقق، لأن ذلك مرتبط بتوازنات قوى وعلاقات بين مؤسسات ومصالح دول عظمى، وكل هذه العناصر لم يحدث فيها أي تغيير، ولا يبدو أنه سيحدث في المدى المنظور.

لقد تحدث كثيرون عن أن وثائق ويكيليكس ستحدث ثورة في الدول الكبرى ودول العالم الثالث التي تناولتها الوثائق، وهذا موقف قام على افتراض خاطئ هو أن العالم يحكم بواسطة الديمقراطية وأن الشعوب تستطيع أن تحاسب حكامها. ونسي معظم التحليلات أن الديمقراطية تراجعت في السنوات الأخيرة، حتى في الدول التي كانت تعد في السابق النموذج المثالي لها، لصالح أوليجاركيات حاكمة يعد أبرز مثال لها رئيس الوزراء الإيطالي برلوسكوني والرئيس الفرنسي نيكولا ساراكوزي، وكانت الولايات المتحدة قد سبقت الدول الأوروبية في هذا الشكل من الحكم، بما تجسد في رئاسة جورج بوش الابن، ومعه مثال آخر مهم في هذا المجال هو نائبه ريتشارد تشيني، وقد مثل هذا الحكم نموذجا لسيطرة الشركات الكبرى على الحكم بصورة مباشرة.

وهذه الاوليجاركية الحاكمة في معظم الدول الأوروبية، لا تعطي أي أهمية للرأي العام، ولا تضع في حسبانها أنها تخضع لأية آليه للمحاسبة، وإنما تهتم فقط بالسيطرة على وسائل الإعلام الجماهيرية، وتمارس سياسة شعبوية تدغدغ عواطف الجماهير، وفي معظم الأحيان لا تخلو من عنصرية في مواجهة الأجانب وأتباع الديانات المختلفة، خاصة الإسلام. وهي في نفس الوقت تتبع سياسيات الدول المستبدة في العالم الثالث، خاصة في ما يتعلق باتباع الأساليب الأمنية، من مراقبة غير قانونية للمعارضين، وتنصت على المكالمات الهاتفية وعلى وسائل الإعلام، على النحو الذي حدث في أكثر من دولة أوروبية خلال السنوات الفائتة. وبالتالي فهي لم تهتم بما نشر في ويكليكس، لأنها تدرك أن لديها آليات للهروب من المحاسبة والسيطرة على العملية السياسية، وأن الشعوب لم يعد لها حول ولا قوة، وأن القضايا الخارجية ـ وهي معظم ما تناولته الوثائق ـ لم تعد تهم المواطن في الدول الغربية، عدا قلة هي التي تهتم بما يحدث في العالم، وهي التي تتظاهر في مواجهة هذه الحكومات الاوليجاركية. والدليل على ذلك أن الأزمة المالية التي شهدها العالم منذ نهاية ‬2007 وما زالت مستمرة حتى الآن، والتي كانت بسبب سياسات هذه الحكومات، لم تحدث أي تغيير يذكر على آليات الحكم في الدول المتقدمة، ولم تؤدّ إلى انهيار هذه الصورة من الحكم، بل أدت إلى زيادة قبضتها على شعوبها.

على الجانب الآخر، فإن حكومات العالم الثالث التي تطرقت إليها وثائق ويكيليكس، تحكم شعوبها بقبضة حديدية، ولا تعطي أي اهتمام هي الأخرى للرأي العام، ومعظمها يحظى بدعم وحماية من الدول الكبرى لأنها تحافظ على مصالحها في المناطق الاستراتيجية بالنسبة لها، وتقوم أحيانا بمهام إقليمية نيابة عنها، بما ينهي أي احتمال لأن تتحلى بالشفافية أو الديمقراطية في مواجهة شعوبها، الأمر الذي ينذر بأن تتخذ هذه الدول سياسات فاشية أو استبدادية في مواجهة تداعيات وثائق ويكيليكس.

وبالتالي فإن ما ستحدثه هذه الوثائق لن يتعدى زيادة الفجوة بين الحكام والمحكومين، سواء في العالم المتقدم أو الثالث، وهذا يمكن أن تكون له تداعيات على المدى الطويل، ولكن ليس على أي من المديين القصير أو المتوسط.

 

Email