في مستقبل العلاقات العراقية الإيرانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعتبر تشكيل الحكومة العراقية بعد مخاض عسير وطويل، مؤشراً مهماً على مستقبل علاقات العراق مع كل من الولايات المتحدة وإيران وتركيا، وعدد من الدول العربية المجاورة للعراق، أبرزها المملكة العربية السعودية. فهذه الأطراف هي الأكثر حضوراً في الساحة السياسية العراقية، والأكثر أهمية في تعيين مساراتها. بلغ تنافس هذه الأطراف على مساحات النفوذ المتاحة في ساحات العراق المختلفة، أشده أثناء الحملة الانتخابية النيابية الأخيرة، واكتسب بعداً أكثر أهمية بعد ظهور نتائج الانتخابات والبدء في لعبة لي الأذرع لتشكيل الحكومة الجديدة، وفق ما أفرزته تلك الانتخابات من استحقاقات. وكان هذا التنافس الشديد أحد أسباب تأخر تشكيل الحكومة الجديدة، وأحد أسباب خروجها بهذه التشكيلة الضعيفة غير المتناسقة، والتي لم يخف رئيس الوزراء نفسه مشاعر الإحباط وعدم قناعته بها. وظفت هذه الأطراف، غير العراقية، قنوات مختلفة ومتنوعة لكسب النفوذ والتأثير على مسارات مستقبل العراق، فإضافة إلى البعد الأيديولوجي، بظلاله العرقية والطائفية المقيتة، الذي كان حاضراً بقوة في حلبة الصراع، كان هناك حضور قوي وفاعل جداً للمال السياسي. كما لم يتردد من يقف خلف العمليات الإرهابية في أداء دوره ليثبت حضوره في المشهد.

لقد نجحت هذه الأطراف جميعاً، بهذا القدر أو ذاك، في وضع بعض البصمات على هيكل الحكومة الجديدة، وأسهمت في وضع الشروط على مسارات سياساتها على مدى السنوات الأربع المقبلة، إلا أن أياً من هذه الأطراف لا ينظر بعين الرضا إلى هذه الحكومة ولا يرى فيها أداة مضمونة لتنفيذ أجندته.

هناك حضور كثيف لأطراف عديدة في المشهد السياسي العراقي، ولكن في ظل غياب العراق نفسه عن مشهده، فالمتنافسان الرئيسيان على النفوذ فيه هما الولايات المتحدة وإيران. الأولى هي أداة التغيير والتدمير، والثانية هي أداة التأثير والتدمير. نفوذ الولايات المتحدة في العراق هو نفوذ القوة العسكرية التي لا تجارى ولا أحد قادر على أن يتحداها، إلا أنه نفوذ بعيد عن الجسد العراقي، على العكس من النفوذ الإيراني المتغلغل في هذا الجسد. ورغم أن مصالح الدولتين متناقضة ومواقفهما متعارضة على أكثر من صعيد، إلا أنهما قد وجدا ما لا يختلفان عليه وهو شخص رئيس الوزراء، رغم أنه ليس الخيار الأفضل لأي منهما.

هناك بعض التوافقات بين الأجندتين الأميركية والإيرانية، رغم أنها ليست بالوضوح الكافي الذي يمكن وسائل الإعلام من رصده بسهولة. فحين تتلاقى مصالح الطرفين حول شأن معين في العراق، لا تتوانى إيران عن إسناد الولايات المتحدة لأن ذلك يعزز موقعها في العراق.

لكلا الطرفين حلفاء عراقيون لا مناص من اللجوء إليهم، لتنفيذ أجندة على درجات متفاوتة من الأهمية داخل المجتمع العراقي، حلفاء الولايات المتحدة ضعفاء من حيث النفوذ قلائل من حيث العدد، في حين أن حلفاء إيران هم الأقوى نفوذاً والأكثر عدداً. الأجندتان مختلفتان ومتناقضتان، فأجندة إيران غطاؤها ديني بنكهة طائفية، في حين أن أجندة الولايات المتحدة ليبرالية بنكهة ديمقراطية. وكلتا الدولتين تسعيان للحصول على مساحة أوسع من النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، وإلى منفذ أوسع للوصول إلى ثروات العراق الوفيرة.

سجل كل طرف قدراً من النجاح، إلا أن الولايات المتحدة كانت أقل قدرة في استخدام الفيتو لرسم هيكل الحكومة العراقية الجديدة، مقارنة بإيران التي نجحت في تحقيق نجاحات أكبر في هذا الصدد. ولكن قدرات إيران بقيت غير كافية للعمل على فرض حكومة أكثر قرباً إليها، لكنها كافية لتعطيل أو إضعاف بعض التوجهات الأميركية. ومع أن الولايات المتحدة قدمت هدية ثمينة لإيران باحتلالها للعراق وإسقاط النظام العراقي الذي وقف بحزم ضد طموحاتها في التوسع غرباً، إلا أن طهران بقيت تنظر بخوف وتوجس إلى ما جرى، وهي ترى نفسها قد أصبحت مطوقة من الشرق ومن الغرب بالقوات الأميركية. وفي سياق التعقيدات التي تشهدها علاقاتها المتشنجة مع الغرب، وبشكل خاص مع الولايات المتحدة، لا يستبعد أن تصبح الهدف الثالث. لذا باشرت طهران، مدفوعة بوازع الدفاع عن النفس، إلى وضع استراتيجية دفاعية وهجومية في آن واحد، ساحتها الرئيسية هي العراق، واللاعبون فيها عراقيون بالدرجة الأولى. وتستند هذه الاستراتيجية إلى عدة محاور:

- تقوية نفوذها الاقتصادي في العراق، من خلال نشاطات تهدف إلى ربط قوي للسوق العراقية بالاقتصاد الإيراني.

- تعزيز نفوذها الأيديولوجي بتوظيف المذهب في النشاطات الاجتماعية على نطاق واسع.

- تقديم الدعم الكبير للأحزاب والمنظمات ذات الطابع الديني المذهبي، التي تحالفت معها إبان حربها مع العراق.

- جعل احتلال العراق وبقاء القوات الأميركية فيه مهمة صعبة محفوفة بالمخاطر من جهة، ومكلفة للغاية للخزانة الأميركية من جهة أخرى، من غير الدخول في مواجهات مباشرة مع هذه القوات.

- العمل على خلق قدرات انتقامية كامنة داخل العراق، تعمل على إشغال الولايات المتحدة ووضع الصعوبات أمامها لمنعها من مهاجمة إيران، عن طريق دعم ميليشيات ومنظمات معادية للنظام القائم في العراق.

استراتيجية كهذه لا تصطدم بمصالح الولايات المتحدة فحسب، بل تلحق أضراراً بليغة بمصالح العراق أيضاً، وتحرج حلفاءه وتبعدهم عنه. فما هي حظوظ نجاحها في المرحلة المقبلة في ظل ظروف تجد إيران نفسها في أكثر من مأزق على أصعدة مختلفة محلية وإقليمية ودولية-

لم تحقق طهران من النفوذ في الحكومة العراقية الجديدة، ما تطمح له وما حققته في الحكومة التي انبثقت إثر انتخابات ‬2005 حين حصدت الأحزاب الحليفة لها، الكردية والعربية، غالبية الأصوات وصنعت حكومة على مزاجها. فالمشهد السياسي العراقي قد طرأ عليه بعض التغيير، ولا بد أن ينعكس ذلك على العلاقات العراقية الإيرانية، التي من المتوقع أن تشهد تراجعاً في الدور الإيراني في العراق على أكثر من محور. فلم يعد حلفاؤها السابقون بنفس الدرجة من القوة، ولم يعودوا بنفس درجة القرب منها من جهة ثانية، وأصبح الشارع العراقي أقل انسياقاً وراء وهم الحصول على الحقوق والمكاسب عن طريق الاصطفاف الطائفي الذي رعته من جهة ثالثة.

Email