تجربة قارئ أعمى وعظيم!

ت + ت - الحجم الطبيعي

بين يدي هذه الأيام كتاب ممتع، جدير بالقراءة والتفكر، يحكي فيه مؤلفه ألبرتو مانغويل، تجربته مع شاعر الأرجنتين الكبير بورخيس، هذا الكاتب والشاعر الذي ولد في العام 1899 وأصبح من أبرز كتاب عصره، وفقد بصره في نهاية أعوامه الخمسين وظل ينتج أدباً رفيع المستوى وهو أعمى حتى وفاته عام 1986، لهذا الشاعر مع العمى والأدب والقراءة تاريخ عميق وعلاقة قل أن تحظى بتوقفنا، مع أنها جديرة بأن تكون درساً إنسانياً وثقافياً شاهقاً لأولئك الذين يطلب منهم تعليم طلابهم وأبنائهم شيئاً عن أهمية القراءة والثقافة في حياة الإنسان والمجتمع!

يقول ألبرتو مانغويل، كنت شاباً يعيش طيش المراهقة واعتداد السنوات الفائرة في تلك الفترة التي كان فيها بورخيس يفقد بصره تدريجياً قبل أن يقتحم دنيا الظلام اللا نهائي، دخل علينا في المكتبة التي كنت أعمل فيها وبادرني بثقة واضحة قائلاً : «هل يهمك أن تقرأ بصوت مسموع على بورخيس ساعتين في اليوم وبأجر مدفوع؟»، ولم يكن بورخيس يعني لي كثيراً في ذلك العمر، قبلت دون أي شعور بخطورة وأهمية ما أنا مقدم عليه، وهل هناك أهم من الجلوس والقراءة لرجل اسمه بورخيس في ذلك الزمان!

لقد آمن بورخيس بأنه سيكون كاتباً عظيماً منذ طفولته في بريطانيا هو الأرجنتيي الذي تتصل جذوره من جهة الأم بالإنجليز، ولذلك ارتبط بالكتب طوال عمره، صار شاعر الأرجنتين الأشهر وكاتبها العبقري والرجل الذي تطلبه كبريات الجامعات، ألف وكتب ونال الجائزة الأدبية الأرفع، وحين ابتلي بالعمى كحال جده ووالده، ذهب ساعياً للكتاب واستأجر من يقرأ له في شقته!

من تجربة القراءة لبورخيس أصبح مانغويل أشهر كاتب متخصص في الكتابة عن القراءة والكتب والمكتبات، ومن تجربة القراءة أصبحنا أمة ذات شأن ولانزال حتى اليوم نقرن تاريخنا بهوية القراءة فنقول نحن أمة اقرأ!

الذين تساءلوا عن سبب إطلاق الشيخ محمد بن راشد لمبادرة القراءة وعن الفائدة التي ستجنيها الإمارات منها، فاتهم أن القراءة ليست مجرد مبادرة وأنها ليست تجارة، فاتهم أن الحياة كتاب عظيم كل يكتبه بحسب همته وأحلامه وقدراته، فاتهم أن القراءة مشروع قادر على إعادتنا كأمة إلى مجرى تيار الحضارة، بعد أن ألقت بنا الأحداث والهزائم جانباً، فاتهم أننا لن نعود إلى حلبة الحياة كفاعلين لا متفرجين إلا إذا صار الكتاب محور ارتكاز في حياتنا، بخلاف ذلك سنظل بلا قيمة في مسيرة الحضارة وفي نظر أنفسنا وموازين الآخرين!

Email