التجربة إما لك وإما عليك

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد مضي زمن على تجربتنا الإنسانية في أي مجال من مجالات العمل أو الإبداع يصبح أمام الإنسان أحد طريقين: إما أن ينظر لتجربته بهدوء ورضى باعتباره بذل أقصى ما يمكنه أن يبذل وحاول قدر جهده أن يطور إمكانياته وموهبته وباعتبار ما منحته هذه التجربة من نضج وغنى ومعرفة وعلاقات وانفتاح على الآخرين واتساع في زوايا النظر لمختلف جوانب الحياة.

هذه الطريقة الإنسانية الناضجة والإيجابية في تقييم تجربتنا بعيداً عما نلناه منها مادياً أو على مستوى المناصب والجوائز فذلك مسار آخر لا يد لصاحب التجربة فيه ولا علاقة للتجربة كذلك، أما الطريقة الأخرى فهي تلك التي يضخم فيها صاحبها من قيمة ما أنجزه مهما كان بسيطاً أو مبالغاً في عاديته، ثم يصدق نفسه أنه أعظم أدباء زمانه، فلا يقبل نقداً ولا يحتمل رأياً مخالفاً.

ويصير كل همه أن يحظى بالمديح والألقاب أينما حل وكيفما ارتحل، إن الذين لم ينضجوا هم فقط من لا يحتملون الاختلاف والنقد، وهنا علينا أن نفرق بين من يختلف معك في الرأي وبين من يستفزك، وما أكثر هؤلاء على مواقع التواصل!

لقد خالط المتنبي أعظم شعراء العرب أمراء وملوك عصره وملأ الدنيا وشغل الناس، لكنه في النهاية قتل في ظرف بائس ولم ينل الإمارة التي لطالما حلم بها، أما لوركا شاعر إسبانيا الجميل والكاتب المسرحي والموسيقي وأحد أهم أدباء القرن العشرين فقد أعدمه ثوار بلاده رمياً بالرصاص وهو لا زال في الثامنة والثلاثين من عمره.

كما مات الشاعر العراقي الجواهري منفياً في براغ ولازال قبره متحفاً في تلك المدينة الدافئة، أما نجيب محفوظ فقد تعرض لمحاولة اغتيال بعد نيله جائزة نوبل وهوجمت كتبه وكفر بسببها، وقد يموت أدونيس قهراً دون أن يتحقق حلمه بنيل نوبل، والأمثلة تفيض بها الكتب، لذلك يردد المبدعون دوماً «عليك أن تسعى وليس عليك إدراك التقدير».

نتحدث عن تجارب عظيمة في التجربة الإبداعية الإنسانية، لذلك فلا شك أن كل هؤلاء ومثلهم آلاف من قافلة التنوير قد نظروا إلى تجربتهم بعين النضج والامتنان بعد أن أيقنوا أنهم حملوها كما تستحق بعيداً عن كيفية تقييم الجهلة والمكفرين والمخالفين ثم رعوها كما تستحق وأبعدوا أنفسهم عن التجاذبات والصراعات والتنافسات والتفاهات، وأن الحكيم من نأى بنفسه عن الصراعات، وهذه منتهى الفائدة التي تمنحنا إياها تجاربنا.

Email