إيجابيات وسلبيات التحولات الاجتماعية

إيجابيات وسلبيات التحولات الاجتماعية

ت + ت - الحجم الطبيعي

مجتمعنا يمر بمخاض اجتماعي جذري. فنظرة إلى ما تحمله وسائل الإعلام المحلية المتنوعة يوميا، تنبئ بأن المجتمع يموج بظواهر وأفكار اجتماعية جديدة، تحتاج إلى دراسة علمية جادة. قضايا اجتماعية كنا في السابق لا نعترف بوجودها؛ كالخيانة الزوجية، التفكك الأسري، ارتفاع حالات الطلاق، الشذوذ وغيرها..

وقضايا أخرى متعلقة بالشأن العام؛ كارتفاع نسب الجريمة، الفساد والاختلاس وهدر المال العام في بعض المؤسسات العامة والرسمية، هي بلا شك إفرازات سلبية لمرحلة المخاض هذه، وإن لم تعالج مبكرا يمكن أن تنعكس سلباً على مجتمعنا ونظامنا الاجتماعي وقيمنا، كما قد تؤثر سلبا على حركة المجتمع ككل.

هذا الوضع رغم ما يحمله من إرهاصات سلبية، إلا أن له وجها إيجابيا آخر. فهو ينبئ بأن المجتمع قد بدأ يتخذ خطوة إيجابية نحو الاعتراف بوجود هذه القضايا، واتباع أسلوب المصارحة والمكاشفة والمحاسبة.

بالإضافة إلى ذلك، فقد بدأت تظهر شجاعة المجتمع في الطرح والنظر بشفافية إلى ذاته، من خلال الجرأة في مناقشة هذه القضايا بعقلانية محاولا إيجاد الحلول الناجعة لها.

حتى وقت قريب كانت قضايا كالشذوذ والتفكك الأسري والخيانة الزوجية، التي كان المجتمع في الماضي يتغاضى عنها إن وجدت، من باب «الستر» و«العيب» و»فتح باب التوبة»، قد بدأ الآن يواجهها بشجاعة، لأن التغاضي عن المشاكل الاجتماعية والستر والعيب لن تجدي نفعا، بل قد تزيد المشاكل الاجتماعية تعقيدا.

إذاً، فالوضع الاجتماعي بما يحمله من متغيرات، هو دليل على أن حركة المجتمع التلقائية تسير بهدوء، وأن هناك التفاتا فرديا ورسميا لهذه الحركة وما قد تفرزه من متغيرات على المديين القصير والطويل.

فما الذي حدث في السنوات الماضية ودعا إلى هذا التغير الجذري؟ وهل كشف المجتمع للمستور من عيوبه سوف يقوي بنياته الأساسية أم يعري نظامه الاجتماعي ويعرضه للتفكك؟

كان نظامنا الاجتماعي في الماضي قائما على أسس معينة من التآلف والتكاتف، فلم تكن هناك سلطات رسمية، بل إن المجتمع ذاته بلور لنفسه سلطات ذاتية لحماية نفسه ولتسير أموره، سواء كانت سلطة رب الأسرة أو شيخ القبيلة أو المطوع أو غيرهم.

ونظرة دقيقة إلى واقع المجتمع آنذاك، تدل على أن هناك مرتكزات أساسية في المجتمع، أهمها النسب والقرابة وعلاقات الدم والتحالفات الاجتماعية. فعلاقات النسب كانت تبنى عليها علاقات الزواج، كما كانت تؤسس عليها العادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة.

وكانت القيم والمعايير والعادات التي توارثها المجتمع، تحل محل التشريعات والقوانين والمؤسسات التي سوف تقوم الدولة بإصدارها لاحقا. كما كان نظام «الولاية»، وهي تقديم الحماية للمستضعفين والموالين، من النظم الاجتماعية السائدة ومن الثقافة البدوية.

في كنف هذا النوع من الأنساق الاجتماعية، تطور مجتمع الإمارات قديما وسير أموره اليومية. فقد كان كل فرد فيه يعتبر نفسه راعيا ومسئولا عن رعيته، وبالتالي كانت الحلول لكافة القضايا والمشاكل الأسرية والاجتماعية، تأتي من داخل الأسرة الواحدة أو داخل القبيلة الواحدة دون مؤثرات خارجية، خوفا من العار أو العيب والفضيحة.

ويمكن أن نقول إن الخلية الواحدة قد نظمت ما يشبه شبكة أمان اجتماعية، لنفسها ولمن حولها. ولكن مع التطور الذي لحق بالمجتمع، ومع دخوله عصر الطفرة البترولية وما رافقها من متغيرات، تغير أيضا النظام الاجتماعي، وقامت الدولة ومؤسساتها الرسمية بكافة أدوار المؤسسات المجتمعية السابقة.

بالإضافة إلى ذلك، فقد انفتح المجتمع على ثقافات الآخر وقيمه وأنساقه وأساليب حياته وأنماطها. فتغير المجتمع التقليدي إلى مجتمع متمدن، بكل ما في المدنية من إيجابيات ومثالب.

ودخلت أفكار حديثة؛ مثل التكنولوجيا الحديثة (الانترنت، الموبايل...)، وخروج المرأة للعمل، والانفتاح الحضاري على ثقافات الآخر، لتنقلب المعادلة الاجتماعية الهشة رأسا على عقب.

نتج عن تلك المتغيرات الاجتماعية واقع اجتماعي جديد، فأصبحت العلاقات الاجتماعية تبنى على أسس جديدة، مغايرة تماما لتلك السائدة قبل النفط. وطرأ تغيير على نظرة الفرد لذاته ولمجتمعه، وللعادات والتقاليد والقيم المتوارثة.

فما كان «عيبا» قبل عقود أصبح الآن شيئا من صميم التمدن، وما كان «منقوداً» قبل عقود أصبح شيئا عاديا الآن.

وكما طرأت متغيرات على الفكر الاجتماعي المعنوي، طرأ أيضا تغير على الموروث المادي، وتغيرت نظرة الفرد إلى محيطه الاجتماعي وأثرت على درجة تماهيه في قضاياه الاجتماعية، سواء تلك التي تخصه شخصيا أو تلك التي تخص مجموعته البشرية.

ويمكن أن تكون إحدى أهم سمات التطور، هي انكفاء الفرد على ذاته الضيقة. فأصبح تحسين دخله المادي ومركزه الاجتماعي ومظهره والشعور بالتميز، هو هدف يسعى له، دون الاكتراث أحيانا بمن حوله وبمصالحهم.

وأظهرت أنانية الفرد ورغبته في الارتقاء بذاته بعض الإفرازات السلبية، تمثلت في الحصول على المال مثلا بطرق غير شرعية كالاختلاس والرشوة، أو الرغبة في إرضاء الذات والنزعات الشخصية مهما كانت الطرائق والوسائل.

وساهم انفتاح المجتمع في تعزيز هذه النزعة الأنانية الضيقة، وزادت في تمجيد الإنجازات الشخصية على حساب الإنجازات المجتمعية. وبالتالي دخل المجتمع في مرحلة جديدة، أو لنقل في منحى اجتماعي خطير، بدا وكأنه لن يكون قادرا على الخروج منه بسهولة.

ولكن المجتمع يبدو أنه استفاد من دروس عدة، فبدأ في توظيف آليات حديثة وشفافة لمعاجة الخلل ولإعادة وضع العربة في مسارها الصحيح.

فقد تعامل المجتمع بكل عقلانية مع بعض الظواهر، كالهدر والفساد العام، كما تعرض بشفافية تامة لبعض القضايا الاجتماعية الخطيرة، دون خوف من تعرية نظامه الاجتماعي والتراتبية التي بنى عليها هذا النظام.

هذا الحزم والجرأة في معالجة بعض الأمور وتقبل المجتمع لمثل تلك المعالجات، تدل على أن هناك وعيا مجتمعيا إيجابيا بأهمية المكاشفة والصراحة في معالجة الخلل الاجتماعي.

إن إيجاد حلول للكثير من القضايا المجتمعية الشائكة، يحتاج منا أولا للاعتراف بوجود تلك القضايا، ومن ثَمّ اللجوء إلى أسلوب المكاشفة والحوار والمحاسبة، لإيجاد الحلول الصحيحة. بهذا نحمى بنيان المجتمع وأسسه من الانهيار.

جامعة الإمارات

fatimaalsaayegh@hotmail.com

Email