مدن نسكنها ومدن تسكننا جمال الشحي

مدن نسكنها ومدن تسكننا

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقال إن المدن كالبشر، وإننا نحمل من مدننا بقدر ما تحمله منا، هذا التشابه العميق والانتماء غير المكتوب مابين المدن والأفراد يسهم في تشكيل هويتنا وهوية المكان كذلك.

عندما نبني المدن يبدأ تاريخ ميلادنا وعندما نهدم مدننا وتراثنا فإننا نفقد أجزاء منا لأن المكان في تكوينه كالجسد.

وكما أن للجسد ذاكرة كما تقول الكاتبة المتألقة أحلام مستغانمي في روايتها «ذاكرة الجسد» فإن للمكان أيضا ذاكرة ويبقى الإنسان جزء من ذاكرة المكان ،تظل مدننا حاضرة فينا ونبقى نحن حاضرين فيها حتى عندما نغادرها فهي لا تغادرنا.

للمدن أسرار وأبواب، وللإنسان عشق غير محدود للمكان، فقد تولد في مدينة ما وأحيانا تكنى باسمها وينتهي بك الأمر أن تدفن أو توصي أن تدفن في مدينة أخرى.

هناك حالات عشق وعلاقات رومانسية حالمة قد تنشأ بين البشر والمدن وهناك أيضا أسباب قاهرة تحمل البعض على مغادرة مسقط رأسه.

لماذا لا نبرح مدننا حتى لو سكنا غيرها؟

هناك دائما مدينة للقلب ومدينة للعيش وأحيانا تجبرنا قسوة الظروف الاقتصادية والسياسية على شد الرحال وتحمل الغربة ولهذا يكون الفراق حلا مؤقتا ويبقى قدرا للبعض أن يكونوا في هذه الحياة مسافرين أو مغادرين.

يقضي البعض الكثير من الوقت محاولا أن يحظى بفرصة للسفر أو العمل أو حتى الهجرة لمكان آخر، تدفعه أسبابه الخاصة وطموحه والعشق الغريب للحلول المؤقتة في حياتنا تلك الصفة الأبدية المتأصلة فينا. ورغم بعد المكان الجديد واختلافه سياسيا ودينيا إلا إننا نفعل المستحيل ونبذل الغالي من جهدنا ووقتنا للهروب من مدننا. انه الحب على الطريقة العربية.

يقول محدثي: إن الكثير من إخواننا العرب يقفون صباحا بالطوابير أمام السفارات والقنصليات الأجنبية أملا في الحصول على تأشيرة للدخول أو تأشيرة الهروب من الوطن، لبلدان كانوا يشتمونها ليلا ويهتفون ضد أنظمتها السياسية.

تقدر المنظمة الدولية للهجرة عدد المهاجرين بحوالي أكثر من مائتي مليون مهاجر في العالم اليوم حسب الإحصائية الصادرة من الأمم المتحدة ويبلغ عدد المهاجرين غير الشرعيين منهم حوالي ثلاثين مليون مهاجر أغلبهم من القارتين الأفريقية والآسيوية وتصدرت القارة الأوروبية العجوز كوجهة أولى للمهاجرين وتليها في المرتبة الثانية أمريكا الشمالية.

كثير من المهاجرين يبحثون عن حياة أفضل في أماكن أخرى، منهم من قست عليهم مدنهم والبعض قمعوا وحوربوا في مدنهم ورغم القسوة والقمع يبقى الحب كامنا، تجدهم لا يبرحون مدنهم حتى لو سكنوا غيرها.

للمدن قلوب كبيرة تتسع للجميع، وهناك عوامل طرد وجذب تمارسها المدن مع المهاجرين إليها والمقيمين فيها، أحيانا تخرج العلاقة خارج نطاق السيطرة وتترتب عليها إجراءات كثيرة قد تتسبب في مواجهات وتحديات مابين الطرفين وقد يتطور هذا الصراع ويأخذ أكبر من حجمه وتكون المدينة مركز هذه المواجهة ومن أسباب الصراع وتضيع المدينة في حب الطرفين.

لكن بعض المدن تعاني من أهلها! وأصعب أنواع المعاناة التي تأتي من الداخل عندما يكون تقبل الآخر معضلة وقضية عند البعض! هذه الهامشية في التفكير تعطل النمو الحقيقي للمدن الذي يكون التنوع الثقافي والتعددية الاجتماعية فيها بعدا استراتيجيا أساسيا ورافدا مهما لتطور المدينة.

ولد الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة وعاش أغلب حياته في هذه المدينة ومنها انطلقت دعوته للإسلام. قال صلى الله عليه وسلم (والله انك لأحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إلى نفسي ولولا أن اهلك أخرجوني ما خرجت منك). وبقي حب مكة المكرمة باقيا، لكنه توفي صلى الله عليه وسلم ودفن في المدينة المنورة.

يقول الشاعر إبراهيم محمد، من الإمارات:

وطن تسكن فيه..

وطن يسكن فيك..

وثالث تبحث عنه..

فأي الأوطان المرة..

في الوقت الضائع تختار؟

كاتب إماراتي

jamal.alshehhi@gmail.com

Email