ألف مكان قبل الموت..د. محمد سلمان العبودي

ألف مكان قبل الموت..

ت + ت - الحجم الطبيعي

في سنة 2003 أصدرت دار نشر وركمان في نيويورك كتابا مكونا من 1000 صفحة، ألفته سيدة أميركية تدعى باتريشيا شولتز. واعتبر هذا الكتاب «رقم 1» من بين أفضل الكتب في العالم بشهادة صحيفة النيويورك تايمز. عنوان الكتاب: «1000 مكان يجب مشاهدتها قبل أن نموت»!

وبالطبع الرقم ألف له دلالات كثيرة بالنسبة للمؤلفة، فهو يوحي لنا بعجائب وغرائب قصص ألف ليلة وليلة، وبالكم الهائل من الأماكن التي «يجب» زيارتها، وباتساع رقعة العالم... إلخ. وبالطبع الرقم 1000 يغري بالشراء، فمن منا لا يرغب في زيارة 1000 مكان سياحي في العالم مقابل 100 درهم؟ وأقصد سعر الكتاب. الجهد الذي بذلته المؤلفة لجمع وتصنيف كل هذه المعلومات والبيانات يستحق أكثر من ذلك.

وقد دهشت عندما اكتشفت أن مدينة العين تشكل واحدة من هذه المدن الألف! فما توقعت يوما أن تقوم كاتبة أميركية تعيش في نيويورك بذكر مدينة صغيرة جدا كمدينة العين، وتعتبرها وجهة سياحية ومكانا من بين 1000 مكان يجب أن نشاهده قبل أن نرحل عن الدنيا.

فمثلا لو سألت كم إماراتيا زار مدينة العين قبل موته لجاءت الإجابة مخجلة، رغم أن مدينة العين تقع على بعد ساعة ونصف فقط من أي مدينة في حدود الإمارات. فما زال هناك العديد من المواطنين يسمعون عن مدينة العين ولم يروها، رغم أنهم وصلوا إلى سان فرانسيسكو وبيجنج.

وأنا شخصيا أعرف أكثر من مواطن إماراتي أبا عن جد لم يزر العين بعد، رغم أنه يتفاخر بزيارة أكثر مدن العالم شهرة. وربما لعجالة هذه المؤلفة لم تتمكن من أن تشير إلى مناطق ليس فقط يجب بل «لا بد» من زيارتها في دولة الإمارات. ومع ذلك وصل إليها الأجانب قبل المواطنين. كيف؟

سأعطيكم مثالا حيا: أرسلت السفارة الفرنسية قبل سنوات إلى جامعة الإمارات التي تقع في مدينة «العين» شابا فرنسيا متدربا في الرابعة والعشرين من العمر، لمدة محددة فقط لا تتجاوز فصلا دراسيا واحدا، لمساعدتي في تدريس اللغة الفرنسية بالجامعة في إطار التعاون الأكاديمي بين فرنسا وجامعة الإمارات. وكان هذا الشاب الفرنسي الجنسية ينحدر من أصول هندية.

بعد وصوله، قضى أكثر من أسبوعين في مدينة العين وهو يبكي (بصدق وبمرارة) لوجوده في مدينة تقع حسب قوله في الربع الخالي من الجزيرة العربية، بدون أهل ولا أصدقاء ولا وسائل مواصلات سهلة كما هو في باريس. وقد عطفت عليه كثيرا في تلك المرحلة. لكن بعد مرور 3 أشهر فوجئت بأنه تقدم بطلب لدى سفارته طالبا تجديد مهمته لستة شهور أخرى. وبعد عدة محادثات توصية من طرفي لدى السفير الفرنسي وافقت سفارته على بقائه لمدة مماثلة.

ودهشت لموقفه هذا. وعندما سألته كيف غير رأيه عن مدينة العين في خلال 3 شهور فقط؟ أجابني بأنه اكتشف في هذه المدينة التي تبدو بسيطة في البداية أكثر مما كان يتخيل ويتوقع.

وبدأ يحكي لي ويسرد ويشرح لي مدعوما بصور القصص والأحداث والمواقف الكثيرة التي تعرض لها. وكيف أنه اشترى سيارة دفع رباعي «شيروكي» قديمة جدا، وقام بصيانتها وانطلق من خلالها في اكتشاف الإمارات. وسألني إن كنت تسلقت يوما ما جبل حفيت؟ فأجبت بأنني فعلت ذلك. فسألني بأي وسيلة؟

فقلت له بالطبع بالسيارة. فضحك حتى سمعه كل من كان حولنا، وقال لي بأن هذا لا يعد تسلقا، وأن التسلق يكون على الأقدام، وقال لي إنني خسرت نصف عمري، لأنه في ما يبدو قد تعرف على مجموعة من الأوروبيين الأجانب الذين شكلوا فريقا يقوم بتسلق الجبل الوعر من أسفله إلى قمته (دون استخدام الشارع المرصوف) مرة كل أسبوع وفي كل الفصول، وأن المغامرة تبدأ في السادسة صباحا وتنتهي في السادسة مساء! وأكد لي أنه لم يشاهد قط في حياته منظر غروب الشمس كما هو من قمة جبل حفيت. وبعد فترة سألني إن كنت قد شاركت يوما في أعراس قبائل الشحوح في أعالي جبال رأس الخيمة؟

هنا خجلت من نفسي، فأنا ليس فقط لم أشارك في أعراسهم، بل إني لم أزر بعد حتى مناطق تجمعاتهم ولا أعرف عنهم إلا الشيء اليسير.

وإذا به يعرض علي صورا التقطها وهو يرقص معهم ويأكل معهم ويغني معهم.. وأخبرني عنهم ما لم يخبرني به أي مواطن من قبله ولا من بعده. وأمور أخرى منها مغامرته الفردية في الصحراء عندما تعطلت سيارته ولم يجد نصيرا ولا معينا. وجلس ينتظر لحظة هلاكه من العطش، وإذا به يفاجأ وكأنه في حلم بري، ببدوي يقود سيارة دفع رباعي يقف على رأسه لينقذه من موت محقق.

أنا لا أريد أن أسرد عليكم كل قصص هذا الشاب الفرنسي الذي اسمه هارون فايتنانده، ولكن فقط لأقول لكم بأنه التمس المرة تلو الأخرى تمديد مهلة تدريبه في الإمارات، حتى قضى فيها أكثر من 12 سنة الآن بعدما قرر الاستقرار فيها.

بالطبع هو يسافر كل سنة إلى جهة ما في العالم، ويكتشف ويصور ويتعرف على شعبها ويكون له أصدقاؤه هناك، ويدون كل شيء على جهاز الحاسب الآلي الصغير الذي يحمله معه في كل مكان. لهذا ولأمثاله ولنا ولغيرنا، نشرت باتريسيا شولتز كتابها الذي أشرنا إليه، وهو متوفر في مكتبة مركز الكتاب ولدى مكتبة مجرودي في مراكز التسوق. فهل سنجعله تحفة مكتباتنا وسفرنا مقابل 100 درهم و1000 صفحة وألف موقع سياحي لابد من زيارته قبل أن نموت؟

بالطبع نحن سوف نموت، وسوف نرحل شئنا أم أبينا عن هذه الكرة الأرضية الغريبة بأهلها وأماكنها وعجائبها، والأطرف من ذلك كله أننا لن نعود إليها بعد ذلك على الإطلاق! والحقيقة أن المكتبات الأوروبية تزخر بكتب السفر، والتي نتعلم من خلالها حتى حقائق تخص بلدنا وشعبنا.

ومن أهم هذه الموسوعات «الكوكب الوحيد Lonely planet» وديسكفوري وDK وRough Guide وغيرها من مراجع السياحة التي تتناول كل دولة على حدة، وأحيانا مدينة واحدة في كتاب والتي يجب اقتناؤها حتى ولو لم نتمكن من السفر إلى تلك المدن الألف. فحتى مجرد قراءتها تنقلنا إليها من خلال التصور والفكرة والخيال والمعرفة.

السفر لمجرد «تغيير الجو» كما هو شائع عندنا، يشبه اقتناء سيارة الروزرايز بدلا من الهايونداي مثلا.. مجرد تغيير ماركة ولكن الوسيلة واحدة. والسفر لمجرد الجلوس في فنادق خمسة وستة نجوم أو في الشقق المفروشة، لا يختلف في شيء عن البقاء في منزلك.. والسفر دون تخطيط ودون خلفية تاريخية، يشبه قراءة خبر بلغة صينية في صحيفة قديمة!

كم قرأنا عن أهرامات الجيزة وبرج بيزا المائل وقصر الحمراء والأسواق الشعبية في المغرب ومآذن أصفهان وتاج محل وسور الصين العظيم ومترو موسكو وشانزليزيه باريس؟ وكم مرة شاهدنا صور هذه المآثر في الكتب والمجلات؟ بل إن منا من رآها بأم عينيه..

ولكن كم منا سافر لأجل هذه المآثر والتعرف عليها وتلمسها بدافع المعرفة وليس بدافع ترديد: «أنا قد رأيت أهرامات الجيزة، أنا قد شاهدت برج بيزا المائل، أنا مشيت على سور الصين العظيم، أنا زرت ضريح تاج محل، أنا مررت بمدريد..».؟!

ولكنني، رغم أني إماراتي منذ مئات السنين، لم أزر بعد جبل حفيت، ولا شاهدت أشجار القرم التي تنبت في المياه المالحة في أبوظبي والمناطق الشرقية!

كاتب إماراتي

dralaboodi@gmail.com

Email