الدولة القاسية والقائد الكاريزما

الدولة القاسية والقائد الكاريزما

ت + ت - الحجم الطبيعي

صاخب هو المشهد السياسي العربي خطيرة سيناريوهاته مخيفة مؤشراته، لكن ما تخفيه الأوضاع الاقتصادية أخطر فالعالم العربي الذي شهد في السنوات الخمسين الماضية أكبر حالة انتقال ثروة في التاريخ الحديث عبر النفط لم يزل يئن تحت وطأة فقر وتخلف يوشكان أن يرسما صورة قاتمة للمستقبل وأن تتجاوز مخاطرهما بكثير مخاطر الانفجار السياسي في لبنان أو الأرض المحتلة أو العراق أو السودان،

وتظل المشكلة الرئيسية في حالة التراجع الاقتصادي المتفاقمة في العالم العربي مشكلة أفكار وقناعات واختيارات أكثر من كونها مشكلة موارد وقدرات أو حتى «مؤامرات» من الخارج تستهدف إجهاض نهضتنا الاقتصادية فكثير من أمم الجنوب نجحت في الخروج من التخلف للتقدم وكان منجزها الاقتصادي القاطرة الحقيقية للاستقرار السياسي لا العكس،

وما زالت التجربة الماليزية تتحدى كل التبريرات التي تتردد في الخطاب التحليلي العربي مؤكدة أننا ضحية قرار كوني بإجهاض نهضتنا، وهو ما يعبر عنه الخبير الاقتصادي الباكستاني البارز نجم الثاقب خان بقوله: إن «الاهتمام بالأخطار الخارجية يضيق نافذة الفرص في ما يتعلق بحدوث تقدم اقتصادي بارز في البلدان النامية».

البعد الناقص

وأول الأفكار المغلوطة التي ترتب عليها الانحياز لخيارات خاطئة تنحية دور العوامل غير الاقتصادية في تصور مشروعاتنا النهضوية الحديثة وهو بعد يصعب قياسه «رقميا» لكن تجاهله قاتل، وهو متجذّر في عوامل غير مادية ويتطلّب نوعا من التغذية الاسترجاعية بين الثقافة والاقتصاد ونظام الحكم.

فالحاجة للنمو الاقتصادي في بلد نام لا تنبع من مصادر اقتصادية بل من الرغبة في ترسيخ مكانة البلد عبر المشاركة في حضارة صناعية، وهي مشاركة تسمح في حدّ ذاتها للبلد أو للفرد بدفع الآخرين للتعامل معه على قدم المساواة. والعجز عن هذه المشاركة يجعل الدولة ضعيفة عسكريا في مواجهة جيرانها، وعاجزة إداريا عن السيطرة على مواطنيها، وغير مؤهلة ثقافيا للتحدث باللغة العالمية».

وتلعب الثقافة هنا كواحد من العوامل غير القابلة للقياس كميا دورا أساسيا في التقدم الاقتصادي فثقافة تقديس ما هو قائم قيد غير منظور على الابتكار، وتحدد الثقافة بالقيم والمواقف والمعتقدات التي توجه السلوك والمؤسسات فالناس منقادون بأهوائهم وإيديولوجياتهم وقيمهم، وحتى عندما تسود المصالح الاقتصادية، تحتاج هذه إلى تبرير القيم لها.

وباختصار فإن الدولة القابلة للتطور، أي التي تشكل النموذج المضاد لدولة تقاوم التطور، يجب أن تغير نماذجها الفكرية التقليدية وأن تخلق مناخا يتلاءم مع نشر المعرفة والمهارات من خلال التعليم، واختيار الأشخاص لشغل الوظائف على أساس الكفاية وإتاحة المشاركة الفردية وتعزيز التنافس. وقد أصاب نابليون بقوله «الرجال عاجزون عن ضمان المستقبل.

وحدها المؤسسات تحدد مصائر الأمم». وقد نشر فرانسيس فوكوياما وجهة النظر القائلة إن رأس المال الاجتماعي هو بأهمية رأس المال المادي. وهو يقصد به «مجموعة من القيم والقواعد غير الرسمية التي يتشاركها أعضاء مجموعة ما على نحو يسمح لهم بالتعاون فيما بينهم» فإذا كان أحدهم يتوقع من الآخر سلوكا نزيها وجديرا بالثقة، سوف يثق تاليا أحدهم بالآخر. وتؤدي الثقة دور الزيت المخفف للاحتكاك الذي يجعل أي مجموعة أو منظمة تعمل على نحو أكثر فاعلية وهي ذات قيمة اقتصادية كبيرة وقابلة للقياس.

مرض القائد الفرد

وفي قلب السياسية تقع إجابة سؤال ثان مهم من أسئلة النهوض الاقتصادي وهو صلة الثقافة بالسلطة ودورهما معا في النهوض فالبعد الثقافي هو الذي يخلق القيم والقواعد والرموز والأعراف التي تتيح ممارسة السلطة، وتوق الشعوب العربية إلى قيادة «كاريزمية» تجذب الجماهير

وتستقطبها نابع من أساطير تمنح مشروعية لتركز السلطة في شخص واحد، ويؤخر هذا النوع من القيادة عملية تطور المؤسسات اللازمة للتحديث، ويلجأ إلى إيجاد حلول رمزية للمشكلات. ويصف ماكس فيبير «الكاريزما» بأنها تلحق الضرر بالشؤون الاقتصادية، فهي تنبذ الوقائع الاقتصادية لأنها عادية وغير مثيرة!.

ومع صعود القائد الفرد «الكاريزما» يتوارى الاقتصاديون المتخصصون ويحل محلهم مبررون ومادحون ورافعو شعارات فيها من العموم والعاطفية أكثر مما فيها من العلمية والاستجابة لمقتضيات المنطق والعقل وتصبح أشكال معينة من النشاط الاقتصادي مقدسة في ذاتها لمجرد أنها من شارات الهوية الوطنية، وكأن التغيير يحمل نوعا من الخيانة الضمنية للأجداد، ومن المؤكد أن علينا الاستمرار في إجلال جدودنا لكن دون إخلال بواجباتنا تجاه أولادنا وأحفادنا.

وغالبا يترافق صعود القائد الفرد الكاريزما بظهور ما جعله المفكر نزيها أيوبيا عنوانا لأحد مؤلفاته وهو «المغالاة في الدولة العربية» حيث عجزت نخبة التحرر الوطني العربي عن التمييز بدقة بين «دولة قاسية» و«دولة قوية». فالدولة العنيفة ليست في رأيه دولة قوية لأنها تعتمد بشكل رئيسي على أدوات إكراهية وإدارية لتخترق المجتمع، أما الدولة القوية فتعتمد الليونة والإقناع، فتظهر من جهتها قدرة على القيام بمهمات تطويرية من خلال التعاون مع مراكز القوة في المجتمع بدلا من ممارسة الهيمنة عليها.

والسلطة الاستبدادية، المحررة من القيود القانونية، تتيح للدولة التصرف على نحو اعتباطي وتمنح انطباعا بالقدرة الكلية وسرعان ما يتبدد هذا الانطباع حين تظهر الثغرات في عملية تطبيق أوامرها في الواقع. وهي تستخدم الرمزية والمجازية لمساعدتها في الحكم، لكن نادرا ما تسعى إلى الشرعية من خلال حسن الأداء والإدارة.

وقدرة دولة ما على جمع المداخيل من خلال الضرائب المباشرة بدلا من غير المباشرة هي مؤشر جدير بالثقة عن القوة الفعلية وعن قبول الشعب لشرعيتها على أساس الأداء. ويجب ألا تؤخذ ادعاءات الاستبداد في تعجيل عملية التطور بحسب قيمتها الظاهرية. إن أصحاب القرار والنفوذ في الدول القابلة للتطور يحملون في أذهانهم خريطة تفشل في التمييز بين السلطة والقوة، فالسلطة تعني امتلاك قوة غير مكتوبة،

كما تعني التأثير الجاذب للسلوك المثالي لتلقي الاحترام والطاعة وهي تترافق على نحو لا مفر منه مع النفوذ، لكن ليس بالضرورة مع القوة، في معنى القدرة على إجبار آخرين على فعل ما لم يكونوا يريدون فعله لولا الإكراه. وللتمييز بين السلطة والقوة أهمية كبيرة لأنه يعترف بحقيقة أن الدولة لا تملك مخزونا لا ينضب من القوة الاكراهية، على نحو يسمح لها بالاعتماد عليه باستمرار لتنفذ أوامرها بل يجب أن تستخدم السلطة الاكراهية باقتصاد وأن تعتمد بشكل رئيسي على سلطتها لتكسب إجماعا حول سياساتها لتأمين التجاوب الطوعي.

كاتب مصري

Email