توازن العلاقة بين الريف والمدينة وبناء المجتمع المدني، بقلم عبد الكريم محمد

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ ان حازت الدول العربية على استقلالها وانعتقت من نير الاستعمار الغربي وحلت النظم الوطنية بدلا عنه, شغل شعار بناء المجتمعات المدنية حيزا كبيرا في مساحة اعلامها المرئي والمسموع والمقروء, حتى وصل الامر ان ربط العديد من الحكومات المتعاقبة في غالبية الاقطار , المشاريع الانمائية بهذا الشعار, حيادا عن المصداقية التي كانت تنظم صيرورة هذه المشاريع والشعارات وتطور الاشكال الادارية التنظيمية, والاخفاقات والنجاحات التي كانت تلازم ولا تزال هذه السياسات التنموية. ورغم التطور الكبير في الآليات المستخدمة, والنقلات النوعية التي شهدتها مجتمعاتنا العربية في مختلف المضامير التنموية, الا انها اخفقت حتى هذه اللحظة في خلق حالة من التوازن بني المدينة العربية وريفها, رغم الجهد المبذول في سبيل التوصل الى هذا المبتغى. ولعل احد اهم الاسباب الكامنة وراء ذلك, يعود بالدرجة الاولى الى عدم القدرة على حل المعضلة بين عوامل الجذب الكامنة في المدن العربية, وعوامل الطرد القسرية التي تعيشها الارياف بظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية الضاغطة. اما عوامل الجذب المدينية فقد تمثلت بتلك الفجوة الهائلة, في بلداننا العربية, بين مستويات المعيشة في القرى والمدن. والسبب يعود منذ البداية الى اغفال السياسات التنموية الجادة التي من واجب الضرورة الملحة ان تصوغ استراتيجية مسئولة تضطلع بها الحكومة المركزية, لكن ما حصل على ارض الواقع كان مغايرا لذلك المنطق تماما.. فقد ركزت هذه الاستراتيجيات جل جهدها واهتمامها في المدن الرئيسية بما في ذلك العواصم, وقدمت جملة من الخدمات الكبيرة المرئية تمثلت بكمية الطاقة التي يحصل عليه الفرد المديني والاستهلاك بكل اشكاله, وانماطه المعيشة في الحاضرة, والخدمات الصحية والتعليمية بكل مراحلها الدنيا وانتهاء بالمعاهد المتخصصة والجامعات, وفرص العمل وشبكات الايصال والاتصال, والمراكز الصناعية والتجارية والمشاريع الاعمارية والبنوك والادارات ومراكز الحكم والمراكز الثقافية التنويرية.. الخ. تجاوز الوهم بموازاة ذلك تميزت احزمة البؤس المستجلبة من الارياف بشكل قسري كما اشرنا, بالكثافة العالية والازدحام الزائد, بالاضافة الى ان هذه المشكلة المتفاقمة والحادة, ليست مشكلة محصورة في المدن فقط, بل ربما كانت اكثر تفاقما في المناطق الريفية ذاتها, والتي بدورها عكست حالة من تفاقم الاوضاع الصحية الرديئة, ارتبطت اساسا بسوء التغذية, ونقص المياه النقية, وسوء الشروط الصحية والبيئة العامة, وسوء حالة المواصلات, ونقص التعليم, وغياب التوعية الصحية. وبات من الواضح ميل المستوى الصحي الى الانخفاض في المناطق الريفية بالمقارنة بالمناطق الحضرية, ويعاني فقراء المدن وسكان الارياف من اعلى معدلات الامراض والوفيات. وعلى ذلك فان الفوارق الريفية والحضرية فيما يتعلق بالوضع الصحي تعكس الفوارق في الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية. وعلى ما يبدو ان التسهيلات الصحية المتبعة في المدن الكبرى, لا تزال امرا عسير المنال بالنسبة لاغلبية السكان الريفيين والبدو, وهي متاحة وسهلة المنال عادة في المدن الرئيسية, او في المراكز الرئيسية للاقاليم. وقد بات من الخطأ اطلاق الدعوات الوهمية التي كانت تنادي بحل اغلبية مشكلات الجمعيات الريفية بجهودها الخاصة من خلال استغلال مواردها, والاستخدام الحكيم للاساليب التكنولوجية البسيطة المتاحة. وانه بات الامر ملحا اكثر من ذي قبل لاتباع خطط وبرامج وآليات يكون هدفها النهائي تعزيز الحالة الصحية لكل سكان احزمة البؤس التي تطوق المدن والمراكز الحضرية, وسكان الارياف, دون ان ترمي الجهات المختصة اي شيء على عاتقها, سوى برامج التوعية الصحية والتعليمية, لأنها بذلك قد تعود الى النقطة التي انطلقت منها والابقاء على ذات الأزمات الى امد غير منظور, وضرورة التنبه الى ان ما قد يكون ناجحا في مدينة ما او ريفها, قد لا يكون مناسبا اطلاقا لمدينة اخرى. وقد بات من الضروري جدا, اتخاذ قرارات حاسمة, تقوم بنشاطات كبيرة تتعلق بادارة الموارد المائية مثل الري والطاقة المائية, والاغاثة في مواسم الجفاف, واستخدام الاراضي الزراعية والتصاميم الانسانية وتخطيط الطاقة. ولابد من الاخذ بعين الاعتبار النمو الكافي في امدادات الطاقة لتلبية الحاجات الانسانية في الارياف المهملة, (الامر الذي يعني تحقيق نمو في دخل الفرد الواحد لا يقل عن 3% في البلدان العربية). كما لابد من الاسراع في اتخاذ الاجراءات اللازمة لرفع كفاءة الطاقة وحفظها, مثل تقليل هدر الموارد الاولية الى الحدود الدنيا. والعمل على حماية المحيط الحياتي والوقاية ضد اشكال التلوث التي تودي بحياة ابناء الارياف والكائنات الحية بأنواعها الحيوانية والنباتية, وزيادة مساحة التصحر الخطيرة على مستقبلنا العربي, ووضع الاولويات في ادراك معضلة الانواع الآخذة في الاختفاء, والانظمة البيئية المهددة, على جداول الاعمال السياسية بوصفها قضية رئيسية تتعلق بالموارد الريفية او المدنية على حد سواء. وهذا يحتاج الى برنامج عربي تشرف عليه مؤسسات جامعة الدول العربية المتخصصة, وبما يضمن الدعم المادي لانجاح الخطط والبرامج المعدة لهذا الغرض بالذات. تصحيح المناخات والواقع اذا ما اردنا الانتقال الى بناء مجتمع مدني معافى من العثرات والصراعات, بشقيها الواضح والمستتر, ونزع فتيل الازمات المركبة التي تواجهها مجتمعاتنا العربية, فلابد من خلق حالة من التصالح بين الريف والمدينة على شروط واسس تحكم هذه العلاقة, وهي: أولا: ان يمد الريف بنفس التكنولوجيا بما فيها ادوات الايصال والاتصال التي تتمتع بها المدينة, دون زيادة او نقصان. ثانيا: أن يتساوى الدخل والاستهلاك, في الريف والمدينة, اي رفع مستوى المعيشة للريف وزيادة استهلاكه الفردي. ثالثا: تقديم الخدمات والمرافق الجماعية والصحية والثقافية بما يؤدي الى تحسين شروط الحياة فيه, وانشاء المصانع شريطة ان تؤخذ بالحسبان الشروط الصحية والبىئية. باختصار الحصول على جميع مزايا النمو الاقتصادي, ولكن دون المعاناة من اي من مساوئها. رابعا: ان توضع الحدود والقوانين الصارمة للتمدد الصناعي وان تقف المدينة بزحفها المخيف والذي تهدف من ورائه الى تحويل الريف, كتلة اسمنتية تغطي سماءه طبقة من الغبار. خامسا: ان لا يجلب ابناء الريف للمدينة ليشكلوا حزام بؤس لها بهدف استخدامهم كيد عاملة رخيصة, او بهدف الاتجار بما يسمى بالرقيق الابيض لارضاء الاذواق. بهذه الشروط وغيرها يمكن ان تبنى حالة من الاحترام المتبادل, على ان ترفع المدينة وصايتها عن الريف واستخدامه بقرة حلوبا تعطي, ولا تأخذ الا الفتات. وقد وصل الامر بزحف الريف الى ترييف المدن العربية بشكل عام, مما عكس ظلاله السلبية على تطورها وأدى الى تدهور البنى الفوقية. وكان من اهم علاماته التراجع الكبير على المستوى الثقافي كحركة الابداع والمسرح والقراءة .. الخ. وما يقع على جنباته, مسجلا ما وصلت اليه المدينة من ضحالة في الابداع والاقبال على الثقافة والتعليم, وتحولت الى قرية كبيرة لا يميزها عن الريف الا العدد السكاني الهائل والكتلة الاسمنتية الضخمة المشادة والبعض القليل من مظاهر المدينة المشوهة. بذلك تكون قد انتفت حالة الصراع القائمة بين الريف والمدينة وحيكت العلاقة فيما بينهما على ارضية التكامل التي تصل في النهاية الى حالة من توازن المصالح, لا الاقتصادية والمعاشية فحسب, بل تتجاوز هذه لتصل الى التوازن الروحي بما يجعل الريف المنطقة الاكثر روحانية والمدينة الاكثر ابداعا وعطاء, ولكل خاصيته. وبهذا نكون قد قطعنا شوطا كبيرا على طريق بناء المجتمع المدني, وتجاوزنا حالة الصراع والاحتراب التي نشهدها في بعض اقطارنا العربية والتي تأخذ اسماء واشكالا متنوعة, خاصة اننا ومن خلال تاريخ الصراعات العربية الداخلية, غالبا ما نلاحظها تنشأ في الارياف بسبب المناخات المواتية والتي ترد الى اسباب الفقر والحرمان. * كاتب فلسطيني مقيم في دمشق

Email