الرجاء.. عدم الاغتيال: بقلم- عادل حمودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تكن اللافتة المعروفة(الرجاء عدم الازعاج)هي اللافتة المناسبة التي كان على عالم الذرة المصري الدكتور يحيى المشد وضعها على باب غرفته في فندق(ميرديان) باريس .. كانت اللافتة المناسبة هي (الرجاء عدم القتل) . لكن.. حتى لو وضع لافتة التحذير من القتل فإن الموساد كان سيقتله سيقتله.. فهو الوحيد الذي يطور برنامج القنبلة النووية العراقية.. وهو الوحيد الذي يتفاوض مع الفرنسيين على شراء (الكعك الاصفر) او اليورانيوم الضروري لهذه القنبلة. كذلك فإنه رفض ان يكون عميلاً يبيع ضميره الوطني للمخابرات الاسرائيلية مقابل 100 مليون دولار.. فكان لا بد من تحطيم رأسه حتى يطمئنوا ان مصدر قوته قد سقط على الارض.. وتبعثر.. واصبح دما مجمداً على ارضية الغرفة. للمرة الثانية تعترف الموساد بجرأة تتجاوز الوقاحة انها هي التي قتلته.. جاء الاعتراف الاخير في كتاب جوردن توماس (جواسيس جدعون) ــ الذي صدرت ترجمته منذ ايام في القاهرة ــ وفيه ان رئيس الموساد (في الفترة ما بين عامي 1974 و1982) امر فرقة الاغتيال بالتخلص منه .. كان البعض يراقب الشوارع.. والبعض يراقب ممرات الدور التاسع في فندق (ميرديان) باريس.. ودخل اثنان غرفته (الغرفة 9041) بمفتاح (ماستر) .. وفي ثوان تخلصوا منه وتركوه غارقاً في غربته. اما المرة الاولى التي اعترفت فيها الموساد بقتله فكانت في سبتمبر 1990 في كتاب ضابط المخابرات الاسرائيلية المنشق (فيكتور ستروفيسكي) الذي نشره بعنوان (بطريق الخداع) وفيه ان يهودا جيل احد رجال الموساد الذين يتحدثون العربية طرق باب غرفته.. وفتح يحيى المشد الباب موارباً وترك السلسلة المربوطة في الداخل.. وسأله المشد: ــ من أنت؟ ماذا تريد؟ ــ انني رسول قوة ما سوف تدفع لك اموالاً طائلة لو تعاونت معها وأجبت لها على أسئلتها. ــ اذهب الى الشيطان يا كلب والا ابلغت الشرطة. ترك جيل الفندق وطار على الفور الى تل أبيب لكي لا يرتبط وجوده بما سيلاقيه المشد.. القتل بلا تردد. بلا رحمة.. وبعد ساعات تسلل الى غرفته اثنان من عملاء الموساد وفتحوا الباب بمفتاح مزور وحطموا رأسه.. ووضعوا لافتة (عدم الازعاج) .. وهو ما عطل اكتشاف الجريمة الى اليوم التالي.. حين تعجبت مشرفة الدور من النوم الطويل الذي استغرقه هذا النزيل .. فطرقت الباب.. فلم يرد..وعندما دخلت وجدت المشهد المروع. قبل اعتراف ستروفيسكي بعشرة شهور كنت قد نشرت كتابي (الموساد واغتيال المشد) ورويت لأول مرة اسرار عملية قتله التي سجلت في ملفات الموساد تحت عنوان (عملية سفنكس) وقد نقل ستروفيسكي عني الكثير مما كتب وان اشار الي المصدر .. وكذلك فإنه استقطع من الوثائق التي حصلت عليها ما يلوي عنق الحقيقة.. وكنت قد حصلت على كافة الاوراق من زوجته زنوبة علي الخشخاني.. ومن محاضر البوليس الفرنسي بمساعدة دبلوماسيين مصريين كانوا في باريس في ذلك الوقت.. ولم يتغلب دورهم الوظيفي على دورهم الوطني.. فقد كان الرئيس السابق انور السادات في شهر العسل مع مناحم بيجن.. وتصور اعلامه ان من حق اسرائيل ــ التي تقتل علمائنا ــ ان نداري عنها جرائمها.. فكان ان نفوا التهمة عنها ولصقوها بجبهة الرفض العربية التي كانت سوريا في صدارتها.. والمذهل ان اسرائيل لم تحترم ذلك .. فبعد ساعات قليلة من لقاء بين بيجن والسادات في شرم الشيخ جرى في يوم الجمعة 5 يونيو عام 1981 اغارت الطائرات الاسرائيلية على المفاعل العراقي. ووضعت القذائف المدمرة نظام السادات في حرج واضح ومعلن بعد ان تجاوز هذا النظام الحرج الخفي والمستتر بقتل واحد من ابرع أبناء الوطن هو الدكتور يحيى المشد فيما بين الساعة السادسة والنصف والساعة السابعة والربع من مساء يوم الخميس 13 يونيو عام 1980 وكأن هناك اصراراً اسرائيلياً على أن يظل يونيو يطاردنا. واخطر من القتل كانت مؤامرة الموساد لتحطيم سمعة الدكتور يحيى المشد.. لقد ارادت الموساد تصوير جريمة اغتياله على انها جريمة فيها دعارة.. لا سياسة..فكان ان دفعت في طريقه بعاهرة محترفة تغريه بقضاء ليلة من المتعة الحرام تنتهي بذبحه.. لقد عاد يوم اغتياله الى الفندق وهو يحمل أكياسا من البلاستيك الملونة.. فيها هدايا صغيرة لأسرته.. فستان وجونلة وساعة يد وجوارب نسائية من النايلون لزوجته وابنته لمياء.. وفي المصعد لحقت به العاهرة ماري كلود ماجال.. التي كانت تشتهر بلقب (ماري اكسبريس) وبصوت فاحت منه رائحة اغراء رخيص مفتعل حاولت اقناعه بالاستجابة... لكن الفلاح المصري المستقيم ــ المولود في طنطا في 11 يناير 1932 والذي لا يدخن ولا يشرب وينام بعد صلاة العشاء ــ تجاهلها.. وانشغل بقراءة اعلانات الفندق الموضوعة في الاسانسير.. وكررت المحاولة.. (انت جذاب جداً) ... (لا تتردد فلن تندم) .. وعندما يأست تماماً قالت:(ارجوك لا تشعرني بالاهانة) .. وبمجرد ان وصل الاسانسير للدور التاسع سارع المشد بالخروج منه ودخول غرفته واغلاق الباب عليه.. وكأنه يفر من كل شياطين الارض. وفيما بعد قالت ماري كلود ماجال في تحقيقات الشرطة ــ التي تأخرت 15 يوماً ــ انها لم تذهب الى غرفته.. لكنها اقتربت من الباب.. وسمعت ضجة منبعثة من الداخل.. فقررت الهروب من موقع الجريمة.. ووجدت الشرطة الى جانب الجثة منشفة حمام (بشكير) تعمد القتلة تلويثه بمساحيق نسائية حتى يثبتوا أن الجريمة سببها علاقة جنسية وليست علاقة مخابراتية.. او انها جريمة عاطفية لا جريمة نووية. انهم لم يكتفوا باغتيال جسده وانما سعوا لاغتيال شخصيته.. ان القتل المعنوي اخطر من القتل المادي.. وتشويه السمعة أسوأ من تشويه الجسد.. انها لعبة شهيرة تلعبها الاجهزة الخفية مع العلماء والمفكرين.. لكنها رغم كل المؤامرات القذرة.. لا تفلح.. فالتاريخ يلقي بمدبرها وصانعها ومروجها وحاملها وسامعها في صناديق القمامة.. فكلمة واحدة من الحقيقة قادرة على هدم جبال من الباطل.. لكن اغلب الناس لا يعلمون.. ولا يتعلمون. بعد حوالي الشهر.. بالتحديد في 12 يوليو 1980 ذهبت ماري اكسبريس الى بار (اولدناين) في (بوليفار سان جيرمان) وعندما غادرته كانت (اما في حالة سكر او انها تناولت مخدراً لانها بالكاد كانت قادرة على السير) .. كانت تترنح وتتمايل وتبدو غير قادرة على الرؤية.. ويقال انها ارتطمت في طريقها بسيارة.. فغضب السائق وهو يعمل في محطة بنزين فدفعها بعيداً والقى بها الى عرض الطريق.. وفي تلك اللحظة بالضبط جاءت سيارة طراز رينو مسرعة فداستها ودهستها.. وفي ثوان اصبحت جثة هامدة. اختفت الشاهدة الوحيدة الى الابد .. ولكن المثير للريبة والدهشة ان المتحدث بلسان الشرطة الفرنسية م. بيريه استبعد ان يكون مصرعها متعمداً.. واصر على ان الحادث (كان حادثاً عرضياً مثل حوادث الطرق الكثيرة) .. اما امها فقد اكدت ان ابنتها ذهبت ضحية جريمة مدبرة .. وقالت: ان ابنتها لم تتعاط المخدرات من قبل.. وأنها لم تكن تميل الى المشروبات الكحولية.. وانها بحكم مهنتها لم تكن توصل نفسها الى حالة الثمالة.. وانها قبل مصرعها بأيام تلقت مكالمة تهديد هاتفية من شخص غريب (مجهول الهوية) . استدعت الشرطة الفرنسية 50 شاهدا.. لكنها لم تتردد في تسجيل استيائها من اهمال الحكومة المصرية التي ينتمي اليها القتيل.. وتجاهل الحكومة العراقية التي كان يعمل في خدمتها.. وسجل التقرير الصحفي الذي كتبه (الموند) عن الحادث: ان القتيل لم يجد من يقف الى جواره حيا.. ولم يجد من يفتش عن قاتله.. ميتا.. وأضيف الى ذلك انه لم يجد من ينصفه.. قتيلا.. فقد تجاهلت الصحف ما وراء اغتياله.. بل وساعدت القاتل في ذلك الوقت على اخفاء جريمته بأن أشارت باصابع الاتهام بعيدا.. أشارت الى عصمت زين الدولة أستاذ الهندسة النووية بهندسة الاسكندرية وأقرب الأصدقاء اليه.. وهي سذاجة لاعلام كان يتخبط في ذلك الوقت ولا يعرف الفرق بين العدو والصديق.. بين القاتل والقتيل.. بين الضارب والمضروب.. ولم يتح لي ان أنشر الحقيقة كاملة وبدقة الا بعد حوالي تسع سنوات من وقوع الجريمة. والغريب ألا أحد تحرك بعد ان اعترفت الموساد بعريضة الاتهام التي تضمنها كتابي عن المشد.. والغريب ألا أحد طالب بالثأر.. أو رفع قضية تعويض.. أو وضع الجثة والجريمة على مائدة من موائد المفاوضات التي لا تنتهي بيننا وبين اسرائيل.. هو ما تفعله اسرائيل التي لم تتردد في الانتقام من النازيين الذين قتلوا اليهود في ألمانيا اثناء الحرب العالمية الثانية.. كذلك فإنها لم تتردد في المطالبة بالتعويضات عن الممتلكات التي كانت من قديم الأزل.. وعادت لدفاترها القديمة لتسوي حسابات لم تخرج من علم السياسة فقط وإنما من علم المحاسبة ايضا.. فلماذا نحن طيبون.. متسامحون.. متساهلون.. مع أعدائنا الى هذا الحد؟.. ولماذا لا يحظى أصدقاؤنا بمثل هذه المعاملة التي نعامل بها أعدائنا؟ *** ولعلها فرصة ان نسترد ثقتنا في أنفسنا ونعرف اننا قادون على ان نفعل الكثير لو أردنا.. لو كانت هناك نية حقيقية.. فقد كان الدكتور يحيى المشد قادرا على تطوير البرنامج النووي العراقي الى حد الاقتراب من القنبلة الذرية.. ويدعم لك تقرير لجنة الطاقة الذرية الفرنسية الذي تضمنه ملف جريمة اغتياله. لقد قال التقرير: ان الدكتور المشد كان على علم تام بتفاصيل التعاون الفرنسي العراقي في مجال المفاعلات النووية التي سلمتها فرنسا للعراق.. وانه كان على علاقة قوية بالمسؤولين في لجنة الطاقة الذرية الفرنسية وقد سبق ان استقبل في بيته في بغداد المسؤول الأول عنها.. وايضا كان دائم التردد وهو في فرنسا على المركز النووي في (كاراخ) و(بيرلات) .. وعلى المعاهد النووية في (ساكلاي) و(فونتا أوروز) .. كذلك فإنه قبل اغتياله بساعات كان قد أنهى بنجاح مهمته في فحص الوقود النووي من اليورانيوم المثري بدرجة 93% والذي يمكن استخدامه في صناعة القنبلة الذرية.. وأشار التقرير: ان العراق كان على وشك الوصول الى هذه القنبلة.. لولا قتل المشد.. وتدمير المفاعل العراقي.. وقبل ذلك ما جرى في ميناء (طولون) الفرنسي. *** في مساء يوم السبت 7 ابريل 1979 نفذت الموساد عملية (قرص العسل) في بلدة (لاسين سورمير) وهي مدينة للصناعات البحرية تبعد 7 كيلومترات عن ميناء طولون.. وفي هذه البلدة كانت تحزن شحنات الأجزاء الرئيسية من المفاعلين النوويين (تموز ــ 1 أو أوزوريس وتموز ــ 2 أو ايزيس) اللذان تعاقدت فرنسا عليهما مع العراق.. وكانت الصناديق ستشحن من هناك على أوتوستراد رقم 559 ــ ن الى مرسيليا.. ومنها بحرا الى البصرة.. وسارعت الموساد بارسال تسعة من عملائها لتفجير المفاعلين قبل حملهما الى مرسيليا.. فقاموا بتوصيل المفاعلين وهما في الصناديق بثماني كتل من المواد المتفجرة من النوع الذي يستخدم في نسف الدبابات والعربات المصفحة.. وفي تلك الليلة دوى الانفجار.. ولم تفلح صفارات الانذار ولا سيارات الاطفاء في انقاذ الكثير.. فقد احترق 60% من المفاعلين وبلغت الخسائر 13 مليون دولار.. والأهم ان البرنامج النووي العراقي تعطل. ومن باب الخداع اتصل الاسرائيليون ــ بعد ساعات من الحادث ــ بالشرطة الفرنسية على انهم منظمة لحماية البيئة تسمى (جماعة حماية البيئة الفرنسية) واعترفوا على هذا النحو بالعملية.. و(حذروا من ان الجماعة ستتابع مثل هذه العمليات ضد المفاعلات النووية) .. وبالرغم من ألا أحد سمع عن هذه المنظمة من قبل فإن الشرطة الفرنسية صدقت ذلك.. فقد كانت تريد ان تصدق. ان تدمير المفاعل العراقي مرتين.. في طولون.. وفي بغداد.. وقتل يحيى المشد.. ثم فيما بعد التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل كانت كلها سلسلة من الاجراءات لصالح ان تظل اسرائيل منفردة في المنطقة بالقوة النووية. *** وأخطر ما كشفه الاعتراف الاسرائيلي بقتل المشد هو ان هناك قوائما تضعها الموساد لاعداء اسرائيل الذين يجب التخلص منهم فورا.. وتوضع القوائم بموافقة رئيس الموساد.. لكن عمليات تنفيذ القتل لا تتم الا بموافقة رئيس الوزراء.. وفي حالة الدكتور المشد يكون الذي وافق عل القتل هو مناحيم بيجن الذي كنا نستقبله كبطل للسلام وهو في الحقيقة كان قاتلا محترفا تقطر يده دماء. أخطر ما كشفته عملية اغتيال المشد ــ التي طالبني عشرات من القراء بكشفها والكتابة عنها ــ ان كثيرا من أوجاعنا القومية مغطاة بالغبار.. والانكسار.. ولكن.. لا أحد منّا قادر على الانفجار.

Email