الحداثة والتحديث حسين العودات

الحداثة والتحديث

ت + ت - الحجم الطبيعي

اختلط مفهوما الحداثة والتحديث في الثقافة العربية المعاصرة، سواء لدى الأنظمة السياسية أم لدى المتعلمين والمثقفين والناس العاديين، ولم ينج من تداخل المفهومين في أذهانهم سوى فئة قليلة من النخبة والأكاديميين، وكادا يتوحدان في ثقافة العديد من الشرائح الثقافية والاجتماعية.

وقد اعتقد البعض أن التحديث هو الحداثة، وعليه فقد وصلت هذه الحداثة حسب رأيه إلى مجتمعاتنا العربية، وها نحن نتطور بثبات وعلى وشك امتلاك ناصية الحداثة والمجتمع الحديث والدولة الحديثة، ولابد أن تنضج حداثتنا وتأخذ أبعادها الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقومية وغيرها.

بادئ ذي بدء ينبغي التفريق بين التحديث والحداثة، فالتحديث هو الأخذ بالتطور العلمي والتقني، وإشادة البنية التحتية للمجتمع حسب معطيات هذا التطور وفي مختلف جوانب الحياة العمرانية، وأنماط الاستهلاك والعيش والمواصلات والاتصالات، وأدوات وأساليب الرفاه، وغيرها من المنتجات والمخترعات التي وصلت إليها البشرية، وتكاد مجتمعات العالم تتشابه من حيث بنية التحديث وإطاره العام، والفرق بينها هو في الواقع فرق بدرجة التحديث من جهة وبأن بعضها صانع للتحديث وبعضها الآخر مطبق له وناقل ومقلد من جهة أخرى.

أما الحداثة فهي أمر مختلف كلياً عن التحديث، لأنها تهتم بالجوانب الفلسفية والفكرية والثقافية والسياسية القائمة في المجتمعات ومفاهيمها، فقد قدمت الحداثة مفاهيم جديدة في الفلسفة، وشددت على تبني العقلانية وتفعيل العقل، وعلى العلمانية، وأحدثت قفزة فكرية شديدة الأهمية في تاريخ الفكر الإنساني، وحققت ثورة سياسية من خلال تبنيها أسساً جديدة للدولة الحديثة كمفاهيم الحرية والمساواة والديمقراطية، وقبل ذلك تأكيد مفهوم الفرد الحر (الفردانية) إضافة إلى إصلاح الخطاب الديني ونقد التراث.

وقد نقلت الحداثة العالم، حسب قول أحد الفلاسفة (من الزراعة إلى الصناعة، ومن الإقطاعية إلى الدولة القومية، ومن الاستبداد إلى الديمقراطية، ومن تهميش الفرد إلى المبالغة في سلطته).

وفي ضوء هذا نلاحظ فرقاً شاسعاً بين اصطلاحي الحداثة والتحديث، ولعل كون التحديث ابناً شرعياً للحداثة، وتابعاً إلزامياً لها، ونتيجة من نتائج مفاعيلها في المجتمعات الحديثة، جعل معظم الناس بمن فيهم بعض المثقفين يخلطون بين المفهومين ويلتبس عليهم الفرق بينهما.

وباختصار نقول : تتعلق الحداثة بفكر الإنسان ومفاهيمه وبنية الدولة، ومرحلة التطور الاقتصادي الاجتماعي والتطور السياسي أيضاً، بينما يعبر التحديث عن نفسه بالتطبيقات العلمية والتقنية والمخترعات، ووسائل الاستعمال اليومي وما يشبهها.

يلاحظ الدارسون للحداثة ونشوئها وتاريخها أمرين: أولهما أن تطورها كان بطيئاً، فقد احتاجت إلى ثلاثة قرون حتى بلغت مرحلة النضوج، من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، وعلى هذا فهي ليست قراراً سياسياً، أو نظرية فيلسوف، أو برنامج نخبة، وإنما واقع تاريخي، وتطور شامل اجتماعي اقتصادي، ويرى بعض الفلاسفة فيها تجربة تاريخية مريرة عرفتها المجتمعات، ومفهوماً ينتمي لكل الأزمان، لأن لكل عصر حداثته، والأمر الثاني هو أن الحداثة التي تعيشها المجتمعات المعاصرة هي من منتجات النهضة الأوروبية، فقد كانت هذه النهضة ومعها عصر التنوير مدخلاً لها ومحرضاً عليها.

لكنها مع ذلك ليست مفهوماً أوروبياً أو حكراً على التطور الأوروبي أو على عصر النهضة فهي لا وطن لها، وليس لها نموذج واحد، فلكل عصر حداثته، وكلما فعّلنا العقلانية والتنوير والديمقراطية وانتقلنا من عالم الخرافات إلى عالم العقل ومن الاستبداد إلى الديمقراطية، كلما اقتربنا من الإمساك بتلابيب الحداثة.

لقد تعثرت مشاريع الحداثة في البلدان العربية وربما فشلت جميعها، وذلك لأسباب عديدة موضوعية أو مصطنعة، منها أن بعض المثقفين العرب اعتبروا أن الحداثة مستوردة فقد أتت مع المستعمرين oوالغزاة الأوروبيين، الذين مارسوها على حقيقتها في بلادهم ومارسوا عكسها في البلدان المستعمرة، فلم يحترموا الحريات والديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها وحقوق الإنسان عامة.

ولذلك كان التحزب للحداثة لدى أبناء البلدان المستعمرة كأنه تحزب للاستعمار، فضلاً عن إشكالية مفاهيم العلمانية واعتبارها لدى بعض الشرائح الاجتماعية نوعاً من أنواع الإلحاد، واعتقاد البعض الآخر أن إصلاح الخطاب الديني هو ردة على الدين برمته، وأن نقد التراث يعني القطع معه واتخاذ موقف عدمي منه، في الوقت الذي شوهت بعض الأنظمة السياسية العربية مفاهيم الحداثة.

ورفضت ممارستها أو تطبيقها، وأشاعت مفاهيم جديدة بدلاً عنها، وحاولت استبدال التحديث بها، وإقناع الناس أن التحديث هو الحداثة وبالتالي فلا ينقص تطورنا شيء.

الملاحظ أن البحوث المتعلقة بالحداثة وإشكالياتها وفشلها في البلدان العريبة هي بحوث قليلة وربما نادرة قياساً لما يجب أن تكون عليه، فلم تشغل الحداثة جدياً لا النخبة ولا المثقفين بشكل عام ولا حتى الفلاسفة منهم، ولولا اهتمام بعض المثقفين العرب والمغاربة خاصة بإعداد دراسات عن الحداثة عامة، والحداثة العربية بشكل خاص، لكان مخزوننا الثقافي عنها فقيراً إلى حد الإدقاع.

شكك بعض الفلاسفة بجوانب عديدة من جدوى الحداثة، وانتقدوا بعض مفاهيمها وقيمها، ونادوا بنظرية (ما بعد الحداثة) التي يتهمها معارضوها بأنها غالت بالنسبية المعرفية والأخلاقية، حتى كادت أن تلغي الثوابت، وقد انتقل المفهوم فيها من المنفعة إلى اللذة، وأصبح الاستهلاك لا الإنتاج هو هدف المجتمع، وتم تنميط السلع على مستوى شامل، وهاهي ما بعد الحداثة تقود العالم إلى بلوغ النهايات : نهايات التاريخ والأيديولوجيا والسببية والحضارة وغيرها.

وأخيراً ينبغي أن نتذكر أن كثيراً من مجتمعات الدنيا تعيش مرحلة ما بعد الحداثة، بينما ما زالت مجتمعاتنا العربية تعيش مرحلة ما قبلها، فهي لم تحقق نهضتها بعد، فكيف بحداثتها.

كاتب سوري

odat-h@scs-net.org

Email