دستور الإمارات بين الجمود والتعديل

دستور الإمارات بين الجمود والتعديل

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعتبر دستور دولة الإمارات خلاصة لإفرازات التاريخ السياسي لإمارات الساحل منذ الوجود البريطاني وسلسلة الاتفاقيات المبرمة بينها وبين حكام الإمارات وصولاً إلى مباحثات الاتحاد التي امتدت منذ عام 1968 وانتهت بانتهاء قيام دولة الإمارات في الثاني من ديسمبر عام 1971.

فالدستور في الإمارات كان وليد جميع المحاولات الوحدوية التي شهدتها أرض الإمارات، ابتداءً من مجلس الإمارات المتصالحة عام 1958 الذي كان أول شكل اتحادي رسمي عرفته منطقة ساحل عمان.

وصولاً إلى اتفاقية السميح 1968 وما تلاها من اجتماعات ولقاءات ومساعي تأسيس الاتحاد التساعي التي استمرت عامين وانتهت بالفشل، وصولاً إلى اتحاد الإمارات في عام 1971 وما رافقه كذلك من اجتماعات ومباحثات بين حكام الإمارات حول مجموعة من المسائل الموضوعية التي تهم الاتحاد.

وقد تدرج الدستور في البداية من كونه اتفاقية لا يتجاوز عددها 17 مادة تهدف لإرساء أسس الاتحاد وتخطيط هيكله بصورة أولية وهذا ما أسفر عنه أول اجتماع عقد بين حكام الإمارات التسع في محاولة منهم لإقامة الاتحاد التساعي الذي باء بالفشل.

وصولاً لاقتراح وضع وثيقة أخرى أكثر تفصيلاً تحت مسمى الميثاق الكامل الدائم للاتحاد وتعيين الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري لإعداد الميثاق المقترح، ولكن باءت هذه المحاولة بالفشل.

واستبدلت لفظة ميثاق بدستور وهي تتناسب قانونياً مع شكل الاتحاد الفيدرالي التي رأت بعض الأعضاء أن يكون هو الشكل الأساسي لنوع الاتحاد المأمول وهكذا شكلت لجنة من المستشارين والخبراء القانونين وعلى رأسهم الدكتور وحيد رأفت لوضع مسودة هذا الدستور.

فالدستور إذاً ولد في بيئة اتحادية ووضعت أسسه ومسوداته على أساس الاتحاد الفيدرالي الذي ينظم العلاقة بين المركزي والمحلي.

استمر العمل بالدستور المؤقت الذي ولد في الثامن عشر من يوليو 1970 ليعلن عن إقامة دولة الإمارات العربية المتحدة إلى يومنا هذا مع إدخال تعديلين عليه فقط مرة عندما تم إضافة رأس الخيمة إلى قائمة الإمارات الأعضاء في الاتحاد، والثانية عندما تم تغير مسمى الدستور من دستور مؤقت إلى دائم والتعامل مع مسألة الاتحاد.

في الفترة الأخيرة ظهرت بعض الأخبار التي تشير إلى أن الإمارات في طريقها إلى تعديل دستوري ليواكب التغيرات العديدة على كافة الأصعدة التي طرأت على مسيرة الدولة، الأمر الذي يثير بعض الأسئلة حول مدى حاجة الإمارات لتعديل دستورها وفحوى مثل هذا التعديل.

الحقيقة التي يقرها الجميع هي أن دستور الإمارات بشكله الحالي لا يواكب التغيرات السياسية التي طرأت على دولة الإمارات من حيث تشكيل وزارات اتحادية جديدة وإلغاء وزارات اتحادية قائمة، والتغيرات التي طرأت على طريقة اختيار أعضاء المجلس الوطني، وبالتالي فإن دستور الإمارات بحاجة لتعديل كي يتضمن الدستور الجديد مثل تلك التغيرات.

فإجراء تغيرين فقط في فترة ستة وثلاثين عاماً يعطي مؤشرا على أن دستور الإمارات دستورا جامدا أي أن عملية تعديله هي عملية صعبة وتتطلب خطوات عدة منها موافقة أعضاء المجلس الأعلى على مثل تلك التعديلات.

فإذا كانت التعديلات المنشودة على الدستور هي تعديلات إجرائية كتغير مسمى الوزارات فالتغير لن يكون صعبا لأن المجلس الأعلى قد صادق على تلك التغيرات عندما تم إنشاء الوزارات الجديدة وعندما ألغيت وزارات أخرى.

لكن السؤال هو هل ستبقى فحوى تلك التعديلات مرتبطة بالمسائل الإجرائية دون المسائل الموضوعية؟ الحقيقة أن تعديل الدستور تعديل موضوعي أي تعديل في جوهر المواد سيكون أمراً في غاية الصعوبة باعتبار أن الشواهد التاريخية لمشوار دولة الإمارات وبقاء الدستور على حاله منذ نشأته إلى اليوم لهو دليل على عدم الرغبة في إحداث التغير الموضوعي على بنوده ومواده.

اليوم هناك سير حثيث نحو تعزيز المحلي على الاتحادي ولعل في الحديث عن التعديل على الدستور فيه من روح السعي نحو تكثيف صلاحيات المحليات والتقليل من صلاحيات الاتحاد. ومع الحديث عن تعديل الدستور تقف الإمارات أمام ثلاثة خيارات أساسية هي:

الخيار الأول: تعديل الدستور ليصب في تقوية الدولة الاتحادية من مؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية لتصبح دولة الاتحاد كياناً واحداً متين البنيان يحصل من خلاله شعب دولة الإمارات على أفضل الخدمات المقدمة وتعزز بالتالي روح الوطنية في عقول وقلوب أبناء وبنات الوطن. ولعل في تحقيق مثل هذا الهدف يتطلب إجراء بعض التعديلات على دستور الدولة من جهة والالتزام بتنفيذ الدستور القائم حاليا من جهة أخرى.

الخيار الثاني: تعديل الدستور ليصب في مصلحة تقوية الإمارات المحلية على حساب الاتحاد بحيث يتم إدخال بنود ومواد دستورية تعطي الإمارات المحلية صلاحيات أكبر في تسيير شؤونها الداخلية من أجل دفع عملية البناء والنماء في الإمارات المحلية المختلفة.

هذا الخيار بالطبع سيعمل على أخذ صلاحيات الاتحاد ومنحها إلى المحليات، الأمر الذي سيؤدي إلى بروز الإمارات المحلية على حساب الدولة الاتحادية مما يعزز روح المحلية على حساب الروح الاتحادية.

الخيار الثالث: هو السير بشكل متواز بين الاتحادي والمحلي من أجل تحقيق التقدم للطرفين ودون أن يطغى طرف على الطرف الأخر.

تعديل الدستور حاجة ضرورية ولكن يأمل المواطن أن يكون ذلك التعديل في خدمة تحقيق الخيار الثالث البعيد عن تكريس المحلية أو تجاهلها. فالعمل على إنجاح الدولة الاتحادية على الصعيدين المحلي والاتحادي هو أولوية لا بد أن تعطى الأهمية القصوى بعد مرور ستة وثلاثين عاما على قيام دولة الاتحاد.

فإذا كان تعديل الدستور هو من أجل تحقيق ذلك الهدف فهي غاية يصبو إليها الجميع، أما إذا كان ذلك التعديل هو من أجل تقوية طرف على الطرف الآخر فإن تلك الغاية لا أحد يرجوها على الإطلاق، وهي تتنافى مع الأسس التي وضع عليها الدستور.

فلتعمل كل السواعد الاتحادية والمحلية على تحقيق رفعة الاتحاد، والمحلي بشكل متوازن وبعيد عن تكريس أحدهما على الآخر، فالدولة الاتحادية هي دولة الجميع التي يجب أن يشارك فيها الكل من أجل تحقيق الرفعة والنجاح والريادة لها.

فتعديل الدستور يجب أن يشمل تعزيز صلاحيات الدولة الاتحادية وليس تعزيز صلاحيات المحليات، ويجب كذلك أن يشمل تعديلات حول المجلس الوطني ضمن إطار الرؤية التي جاء بها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد رئيس الدولة منذ توليه الحكم والقاضية بتطوير المجلس الوطني ليكون مجلسا منتخبا وذا صلاحيات تشريعية.

فأي تعديل على الدستور يجب أن يصب في هذا الإطار الاتحادي ولا يتجاهله في سبيل تقوية المحلي. وكلنا ثقة بأن مؤسسي هذه الدولة الاتحادية لم يمنحوا حمل راية الاتحاد إلا لأشخاص آمنوا في قدرتهم على إكمال تلك المسيرة الوحدوية لتصب في خدمة الاتحاد وطناً ومواطناً.

مركز زايد للتراث والتاريخ

Email