معنى البطولة ومبناها

معنى البطولة ومبناها

ت + ت - الحجم الطبيعي

تجمع المعاجم العربية على أن البطولة هي الشجاعة الفائقة التي لا يتصف بها إلا قليل من البشر، ويقدم ابن منظور في «لسان العرب» أسباب هذه التسمية بقوله «سمي بطل لأن الأشداء يبطلون عنه، أو أن دماء الأقران تبطل عنه، فلا يدرك لهم ثأر»، أما معجم أوكسفورد فيرى أن البطل Hero هو «المحارب العظيم والمقاتل الشجاع».

وللبطولة ركائز لا تخفى على أحد، أولها فيض الحيوية، إذ إن البطل يتمتع بقوة بدنية فائقة، بغض النظر عن حجم جسمه، طويل أو قصير، سمين أو نحيل. ولم يعرف التاريخ بطلا غير موفور الصحة، أو متداعي البناء، بليد المشاعر والإحساس. وثانيها رسوخ العقيدة، بوصفها القوة التي تهيمن على الفكر والمشاعر والعزيمة، وتحمي الفرد عند الملمات، وتمده بطاقة على الصبر، وتملأه بالاطمئنان وقت القلق، والثقة وقت الاضطراب، وتجعل العظائم تصغر في عينيه، ما دامت باطلا، والصغائر تكبر في نفسه ما دامت حقا.

والعقيدة هنا لا تقتصر فقط على ما يستمد من الدين وجلاله، بل أيضا على ما تمنحه المذاهب والرؤى الوضعية، والأيديولوجيات متكاملة الأركان، والعلوم التجريبية. فكل هذه الخلفيات العميقة تمنح صاحبها قدرة على مواجهة الصعاب التي تعترض طريقه، وإصرارا على تحقيق غاياته، لكن كل المعتقدات تصغر وتتضاءل أمام الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

وعموما فإنه لولا إيمان الأبطال في كل مجال من مجالات الحياة بما يدور في عقولهم وتنطوي عليه جوانحهم ما تقدمت الحياة بنا خطوة واحدة. فالسياسي المؤمن بقضية بلاده، والمفكر المؤمن بآرائه، والعالم المؤمن بمخترعاته واكتشافاته، ورجل الدين المؤمن بانتصار الحق في النهاية، هم جميعا من دفعوا الحياة دفعا إلى الأمام، ولولاهم لتوقفت أرجل الناس عن المسير، وتجمدت مصائرهم عند المرحلة الأولى.

أما الركيزة الثالثة فهي الشجاعة، إذ لا بطولة من دون شجاعة فائقة، لأنها عدة البطل في الحب وسلاحه، ولأنها في السلم القوة الدافعة إلى الاعتصام بالعقيدة، والصدع بكلمة الحق، والتنديد بمفاسد المجتمع وشرور الحكام، وهي الباعث للمستكشفين على المجازفة بحياتهم، وعلى هجر أوطانهم، ليردوا الأصقاع المجهولة، والبقاع التي لم تخط عليها قدم، فينتفع العالم بخيراتها، ويعرف أحوالها، ويضيف إلى علمه علما، وهي التي تحفز المخترع إلى السهر والدرس والبحث، فيجري التجارب في معمله أو في الجو أو في قاع البحر، وهو على ثقة من أن الموت يرصده.

والركيزة الرابعة هي مضاء العزيمة، عاجلها وآجلها، باعتبارها القوة التي وهبها الله سبحانه وتعالى للإنسان، لتسيطر على رغباته، وتضبط حركته، وهي مستمدة من الفطرة الإنسانية، وتأتي التجارب والخطوب لتصقلها وتمتنها، وتجعلها عزيزة لا تقبل الذل، أبية لا ترضى الهوان.

والركيزة الخامسة هي الاعتداد بالنفس، الذي يمنح البطل عزة وثقة في نفسه، وهيبة في نفوس الناس، ويحصنه من الوقوع في فخ الغرور القائم على الادعاء والمبالغة والكذب، أو السقوط في أوهام الخيلاء المنطوية على الكبر والاستكبار، أو التردي في الأثرة التي تتأسس على جنوح وتزيد في حب النفس، وحرص على إشباع ملذاتها ومتعها.

أما الركيزة السادسة فهي الرحمة، فالبطل ليس وحشا كاسرا، قاسي القلب، متبلد المشاعر، بل هو إنسان عطوف، طيب القلب، رقيق المعاملة، وهذا لا يتناقض مع شجاعته ومضاء عزمه. ومن يتصور أن البطولة خالية من الرحمة، فإنه خاطئ أو مغرض، يتوهم أن البطولة تدمير وتخريب وإفساد وغطرسة، وينسى أن الأبطال في تاريخ الإنسانية قد عرفوا الرحمة والعطف والوفاء والضعف أمام المواقف الإنسانية.

فالبطولة مرتبطة بالأخلاق ارتباطا شديدا، فالبطل لا يميل إلا إلى الواجب، ولا يخون الأمانة. وترتقي البطولة كلما تعلقت بالغايات العظيمة، والبطولة التي لا يبغي البطل من ورائها مجدا وصيتا، أو يسعى إلى الكيد إلى خصم، أو تحقيق منفعة مادية، هي البطولة السامية، التي لا تموت بموت صاحبها، بل تظل باقية حين تؤثر في أتباع البطل ومريديه، أو ترفعه إلى أن يكون مثلا أعلى يحتذى به على مر الزمن.

والأبطال إما أن يكونوا حقيقيين كالذين نعرفهم في السياسة والحرب والمعرفة والعلم والدين، مثل هؤلاء الذين ذكرهم توماس كاريل في كتابه الأثير «الأبطال»، أو أسطوريين تصنعهم قرائح الشعوب وأقلام بعض الكتاب المبدعين، إما اختلاقا كاملا، أو بإضفاء صفات خارقة على قادة وشخصيات عادية بعد موتها.

وهنا يقول كارليل: «إن من أسباب العزاء أن في ذكرى الأبطال العظماء، كيفما كانت، نفعا وفائدة. والرجل العظيم لا يزال بعد موته ينبوع نور يتدفق. فليس أحسن من مجاورته شيء.. نور يضيء، وكان يضيء ظلمات الحياة. وليس هو كسراج أشعل، ولكنما نجم شبته يد الله بين أشباهه من كواكب الأفق... هو ينبوع نور يتدفق بالحكمة ومعاني الرجولة والشرف الكبير».

ويقدم كارليل أبطاله في صور شتى، أولاها والثانية «عبادة الأبطال» التي تعني الإفراط في إجلالهم إفراطا لا حد له، هي البطل في صورة شاعر ويجسده كل من دانتي وشكسبير، والثالثة هي البطل في صورة قس، ويجسده مارتن لوثر بالنسبة للبروتستانتية وجون نوكس بالنسبة للبيوريتانية. وقياسا على هذه النماذج يحفل التاريخ البشري بالأبطال، الذي كبروا في عيون الناس ونفوسهم، وصاروا رموزا ومثلا عليا، يقتدى بها.

ويولد البطل في السير الشعبية مصحوبا بنبوءة واضحة المعالم، ترتبط بوجوده الفعلي، وتحدد له المصير المعد له، والدور الذي سيلعبه في حياته، وهو دور حتمي، ليس بوسعه أن يفر منه، أو يتفاداه. وتضع هذه النبوءة بصمة أساسية في إخراج البطل من حيز الإنسان العادي إلى براح الإنسان الأسطوري، ليدخل دائرة الكون الفسيح، فيتوحد معه، ويرتبط به ارتباطا وثيقا.

والنبوءة قاسم مشترك في أساطير البطولة كافة، وحياة أصحاب الملاحم والسير الشعبية الكبرى. ومن أشهر النبوءات هذه المتعلقة بأخيل وكعبه، وتلك الخاصة بأوديب والتي حملها معبد دلفي إلى والده. وفي الأساطير العربية سبقت النبوءة مجيء أبو زيد الهلالي وحمزة البهلوان وعبد الوهاب ابن الأميرة ذات الهمة وعنترة بن شداد والزير سالم... الخ.

وينحت بعض المبدعين أبطالا من خيالهم الخصب، لكنهم يتركون علامات في تاريخ الإنسانية، وتتردد سيرهم وأفعالهم وكأنهم بشر من لحم ودم، وليسوا مجرد سطور دبجها قلم، وربما لم يتوقع كاتبها لحظة تدبيجها أنها ستعلو في نفوس الناس هذا العلو، وتجري على ألسنتهم هذا الجريان.

ويمكن أن نضرب مثلا هنا بشخصية «دون كيشوت» التي أبدعها الكاتب الأسباني ذائع الصيت سيرفانتس (1546 ـ 1616) بعد أن احتشد خياله بقصص الفروسية التي قرأها من الأدب اليوناني القديم، فهذه الشخصية المختلقة صارت مضرب الأمثال على الفروسية الجامحة، التي جعلت صاحبها يعشق الحرب، فإن لم يجد من يحاربه حارب طواحين الهواء. وحفل الأدب العالمي بنماذج عديدة على المنوال نفسه مثل هاملت لشكسبير وفوست لجوته... وهكذا.

وهذه النماذج الخيالية المختلقة تدل دلالة قوية على أن الناس يتوقون دوما إلى البطولة، فإن لم يجدوها اخترعوها. وسواء كان البطل حقيقيا، عاش بين الناس ومشى على الأرض وسُمعت أقواله وشوهدت أفعاله، أو كان صناعة كاتب قدير أو إنتاج قريحة شعبية متوقدة، فإن الحياة بحاجة دوما إلى الأبطال، كي ترتقي وتتقدم وتسير إلى الأمام.

مدير مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط ـ القاهرة

Email