ثلاثية الهوية في الثقافة الوطنية

ثلاثية الهوية في الثقافة الوطنية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الإنسان أي إنسان في أي وطن من الأوطان مكون من مكونات ثلاثة هي الروح والعقل والجسد ولا يمكن لأحدها أن يكون بديلا عن غيرها، وكذلك أيضا تتكون المجتمعات البشرية، من هنا تنبع ثلاثية مكونات الثقافة الوطنية التي تتمثل في الدين والثقافة والقومية باعتبارها الدوائر الأساسية للانتماء بين المجموعات البشرية، وهى الهوية الطبيعية للإنسان الفرد في أي مكان على سطح الكرة الأرضية، فلا يوجد مجتمع بلا وطن، ولا وطن بلا شعب، ولا شعب بلا أرض ولا أرض بلا دولة،

ولا دولة بلا دستور يحدد ملامح هويتها القومية والدينية والثقافية، كما لا يوجد إنسان بلا جنسية وطنية، ولا إنسان بلا قوم خرج من أصلابهم، ولا إنسان بلا معتقد يؤمن به سماويا كان أو أرضيا، وكل إنسان في عالمنا هو في النهاية مواطن في وطن من الأوطان، له أرض يعيش عليها ودولة يحمل جنسيتها، واسم يميزه ينتهي إلى لقب عائلة صغيرة أو كبيرة ممتدة الجذور، وعقيدة روحية أو فكرية يدين بها توجه مسيرته. هذه الثلاثية التي تمثل دوائر الهوية الفردية أو المجتمعية هي طبيعة الأشياء الواقعية الجبرية والاختيارية معا،

وهى ثلاثية متداخلة ومتكاملة ومتناغمة، ولا تناقض بينها، كما لا بديل لإحداها عن الدائرتين الأخريين، والتمايز في الهويات الوطنية للدول يتشكل من علاقات الدوائر الثلاث ببعضها تبعا لأولويات كل وطن، وواقع كل مجتمع، وإرادة كل شعب في ترتيب هذه الدوائر وتحديد أحجامها بما يرسم ملامح شخصيته، وبالتالي ما هي الدائرة الكبرى، وما هي الوسطى، وما هي الصغرى من هذه الدوائر الثلاث.

هناك دول تضع الدين عنوانها الوحيد وبالتالي يكون في هويتها هو دائرتها الكبرى التي تحتوي غيرها من الدوائر، مثل الفاتيكان كدولة مسيحية ذات وضع فعلي خاص، وإسرائيل كدولة يهودية ذات وضع افتعالي شاذ، وهناك دول تقدم الانتماء الديني على الوطني وتنص في دستورها على مكوناتها القومية وأقلياتها الدينية وتضمن لجميع هذه المكونات جميع الحقوق الإنسانية الدينية والثقافية والمساواة بين جميع المواطنين أمام القانون مثل الجمهورية «الإسلامية في إيران»،

وهناك دول تقدم انتماءها الوطني على انتمائها الديني في عنوانها الرسمي مع نص دستورها على مكوناتها القومية، ومع مساواة الجميع أمام القانون مثل جمهورية «باكستان الإسلامية»، وهناك دول تضع الوطن بكل ما يضمه من مواطنين أيا كانت أعراقهم أو أديانهم وتجعل من المواطنة محور دائرتها الأولى والأخيرة

بحيث لا يعني دستورها العلماني ولا عنوانها الرسمي بما هو قومي أو ديني مثل «الجمهورية الفرنسية» ومعظم دول الغرب، وهناك دول يمثل الانتماء الوطني عنوانها الرئيسي بينما يعكس دستورها تكريسا لمكوناتها الطائفية وتقسيماتها المذهبية ويعترف بمكوناتها العرقية المتعددة ويساوي بين الجميع أمام القانون ويضمن جميع الحقوق والحريات الدينية والثقافية لجميع المواطنين مثل «الجمهورية اللبنانية».

وهناك دول تقدم انتماءها الوطني على انتمائها القومي ويعكس ذلك اسمها الرسمي وتنص في دستورها على الدين الرسمي للدولة وعلى أنها جزء من الأمة العربية وعلى ضمان حماية حقوق جميع المواطنين الدينية والثقافية والسياسية على أساس المواطنة والمساواة أمام القانون مثل جمهورية «مصر العربية»،

بينما توجد دول تقدم انتماءها القومي على انتمائها الوطني في حين لا تجعل الدين أساسا لهويتها السياسية من منطلق عدم التمييز بين المواطنين على أساس الدين، ويضمن دستورها حقوق جميع المواطنين أيا كانت انتماءاتهم الاثنية أو الدينية والثقافية والمساواة أمام القانون مثل الجمهورية «العربية السورية».

والدول الواعية هي التي تعترف بمكوناتها الطبيعية الوطنية والقومية والدينية وتطلق حريتها في التعبير عن نفسها في إطار مبادئ الدستور ومواد القانون دون إلغاء متعسف أو إعلاء متطرف لدائرة من هذه الدوائر الثلاث، إذ ان التغييب التعسفي أو القمعي لأي منها يؤدي إلى توتر بين مكونات الدوائر الأخرى، بينما الإطلاق غير المنظم أو الإعلاء المتطرف سياسة غير مسؤولة يؤدي إلى النزاع الأهلي، فالقاعدة الطبيعية تشير إلى أن أي غلو في دائرة من هذه الدوائر الثلاث يولد تلقائيا غلوا مقابلا في أي من الدوائر الأخرى وصولا لحالة من التوازن.

غير أن الضمانة الضرورية تشترط أن يكون الدستور تدوينا وتطبيقا متوازنا ومعبرا عن إرادة كل قوى الوطن الدينية والعرقية والمذهبية والسياسية دون إقصاء أو تمييز باعتبارهم جميعا شركاء في الوطن ولا سبيل لأي طرف منهم لإلغاء الآخر، خصوصا حينما يتأكد للجميع ألا طريق أمامهم سوى ترتيب أولوياتهم الوطنية وفقا لثقافة العيش المشترك بالشورى والحوار والتوافق والآلية الديمقراطية، وبشرط أن يكون القانون عادلا وشاملا ومتوازنا بضماناته لجميع الحقوق والحريات قبل الواجبات والمسؤوليات.

وإذا لاحظنا أن كل دائرة من هذه الدوائر تضم أطيافا وأطرافا في صميم مكوناتها، فإن الوطنية تضم أطيافا اثنية وثقافية وسياسية ثلاثية الطابع من اليمين إلى اليسار مرورا بالوسط، وحتى كل طيف من هذه الأطياف الثلاثة يضم أيضا أطيافا ثلاثية الطابع، واليمين مثلا يضم تيارات سياسية متعددة هي اليمين المتطرف واليمين الوسط ومن هم على يسار اليمين. ونفس تعدد التيارات الثلاثية الذي هو مكون طبيعي داخل الطيف الواحد يرى بوضوح في قوى الوسط وقوى اليسار أيضاً،

وحينما تتضخم دائرة عما يزيد على حجم واقعها الطبيعي في مجتمع ما، تتنامى الدوائر الأخرى تلقائيا لموازنة هذا التضخم، وحينما تتطرف يقابل ذلك تطرف مضاد، التطرف اللا ديني يولد تطرفا دينيا والتطرف القومي يولد تطرفا وطنيا والتطرف الوطني يولد تطرفا عنصريا أو أيديولوجيا، فحينما يعزل الدين عن الدولة يعلو الشعور بالتمايز الوطني أو القومي وتعلو المشاعر الدينية المتشددة في مواجهة الدعوات العلمانية المتشنجة،

وتصحو النعرات الاثنية المتعصبة فيتحول طابع التوترات العامة فيها إلى الفعل غالبا بين المكونات الاثنية والثقافية والسياسية، وتنمو الروح التقسيمية، وحينما يتم إقصاء الانتماء القومي يعلو الشعور الوطني والديني إلى حد التطرف بينما تتحول التوترات العامة إلى الفعل بين التيارات الأيديولوجية السياسية والمذاهب الدينية، وحينما يضعف الشعور الوطني خصوصا في غياب دولة مركزية قوية وعادلة، تعلو التوترات المذهبية والطائفية والعرقية إلى ما يشبه الفوضى أو النزاعات الأهلية وتعلو الدعوات الانفصالية.

ويمكننا ملاحظة ذلك بوضوح فيما نشهده بالأسى والأسف من تطورات ومتغيرات الأوضاع وعلاقات القوى والسياسية والطوائف المذهبية والمكونات العرقية في العراق وفى لبنان وفى فلسطين. في النهاية.. فإن ما يحقق التعايش المشترك ويضمن السلم الأهلي ويحقق الوحدة الوطنية بين مكونات كل مجتمع وشعوب كل وطن وطوائف كل دولة هو تحقيق العدالة الشاملة بين جميع الأفراد والمجموعات الوطنية والدينية والسياسية،

وكذلك تحقيق الشراكة الكاملة بين القمة والقاعدة في الثروة والسلطة، والحرية الكاملة مع المسؤولية الكاملة في الدين والوطن.. والمساواة الكاملة أمام المرجعية الميثاقية الوطنية الواحدة، والتوازن الدقيق بين السلطات والمسؤوليات في الدستور والقانون بما يتوافق عليه الجميع وتوافق عليه الغالبية الشعبية بإرادة حرة.

تلك (العدالة والمشاركة والحرية) في الحقوق الوطنية والسياسية والدينية لكل المواطنين هي تلك الثلاثية التي يمكنها على قاعدة المواطنة وثقافة العيش المشترك أن تبني مجتمع الفرص المتكافئة للجميع، بحيث يكون فيه للجميع ما للجميع من عائدات وحريات ويكون فيه على الجميع ما على الجميع من أعباء ومسؤوليات، بما يصون حرية الوطن وحرية المواطن،

ويدفع تنمية الوطن لرفع مستوى معيشة المواطن، وهي نفسها الثلاثية التي تحدد وتحمي الحقوق للجميع، وتحدد وتفرض الواجبات على الجميع في مجتمع يكون فيه لجميع المواطنين حق وحرية اختيار مرجعياتهم الدينية والسياسية والمذهبية بشرط عدم فرضها على غيرهم. ليتعايش الجميع في مجتمع يكون فيه الدين لله والوطن للجميع.

كاتب مصري

mamdoh77t@hotmail.com

Email