شباب في مهب الريح ـ د. لطيفة النجار

شباب في مهب الريح

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقول غوته «يتوقف مصير كل أمة على شبابها»، ولا شك أنّ هذا الكلام صحيح، فكل أمة تستطيع أن ترى المستقبل يتشكل أمام ناظريها بتأمل شبابها والتفكر في أحوالهم وأخلاقهم وطموحاتهم. إنّ الشباب ثروة يجب ألا تهدر وألا تهمل، وأن توجّه إليها كل الطاقات والاهتمامات.

وأن تكون من أهم الأولويات في خططنا الاستراتيجية والمستقبلية. وكل مجتمع يحتاج إلى أن يولي هذه الفئة اهتماماً خاصاً مدروساً ليستطيع أن ينهض بها وأن يوفر لها شروط الحياة الطيبة الناجحة، وأن يحميها من كثير من الآفات والمشكلات التي قد تكون عرضة لها في هذه المرحلة الحرجة.

وفي مجتمعنا الناهض الذي يسعى سعياً حثيثاً لتحقيق شروط الحياة الحديثة بتطوراتها المتسارعة يشعر المرء أنّ هناك الكثير من المشكلات العالقة التي لا يرى في الأفق لها حلولاً أو معالجات واعية تدرك أخطارها وحساسيتها.

وتعمل بوعي وعقلانية ومرونة على أن تضع لها آليات واقتراحات تساعد على تقليص خطرها، وإبعاد شرورها عن أبنائنا الشباب ممن قد يقعون فريسة للكثير من الأفكار والسلوكيات التي قد تؤثر تأثيراً سلبياً في حياتهم قد يصل أحياناً إلى درجة التدمير والضرر الذي لا شفاء بعده.

وإذا أردنا أن نكون أكثر تحديداً فإن فئة الشباب من الذكور تحتاج إلى الكثير من العمل والعون؛ فهناك سلوكيات سلبية أصبحت شائعة بين شبابنا إلى الدرجة التي تجعلها ظاهرة عامة تحتاج إلى تضافر الجهود والتعاون بين جهات مختلفة في المجتمع بحيث نستطيع ـ معاً ـ أن نقلل من آثارها على الشباب أنفسهم وعلى المجتمع عامة.

وأول هذه الظواهر عزوف الشباب الذكور عن التعلم، وزهدهم في كل ما له صلة بمجتمع المدرسة أو الجامعة، فقليل من أبنائنا الحريص على طلب العلم، الساعي له بروح التقدير والاعتزاز، بل إنهم ندرة نادرة، فهم يرون التعلم عبئاً ثقيلاً تنوء كواهلهم به، ويودون لو يستطيعون أن يسقطوه عنهم بأي طريقة كانت. إنّ الحرص على تثقيف الذات، وتعلم الجديد المفيد، والجد والاجتهاد وبذل الجهد الحقيقي المخلص كلمات بلا معان عند معظم شبابنا.

وأسباب هذا الأمر كثيرة، أهمها أنّ تربية الذكور في كثير من أسرنا تقوم على التدليل المفرط، وعلى إعطاء الولد ـ منذ الصغر ـ حقوقاً تفوق عمره، بحيث ينشأ وهو يرى نفسه معفى من كثير من الواجبات والمسؤوليات، مما يعزز في نفسه فكرة تحرره من كل عبء يتطلب جهداً وعملاً، وهذا أمر يستمر معه حتى بعد أن يكوّن أسرة يكون هو ربّها، فكثير من الأسر الشابة في مجتمعنا تعتمد اعتماداً شبه كلي على الأم في تيسير شؤون حياتها المختلفة.

أما الأب فإنه يعفي نفسه من معظم واجباته، ويكون حضوره في الأسرة باهتاً ضئيلاً. بل إنّ بعض الأسر تشتكي من غياب الأب الدائم، وعدم اهتمامه بشؤون أبنائه واحتياجاتهم ومشكلاتهم. ولا شك أنّ هناك أسباباً أخرى كثيرة وراء هذه الظاهرة لا يسعها هذا المقال منها المجتمع المدرسي وما ينضوي تحته من بيئة وطرق وأساليب وغيرها.

ولكنّ الظاهرة في حدّ ذاتها تشكّل منعطفاً مهماً في حياة أبنائنا وتحتاج أن نوليها اهتماماً، وأن نعيد النظر في مسألة تربية أبنائنا الذكور التي تفتقد إلى الحزم والحوار وبناء علاقة متينة من الصداقة بين الآباء والأبناء والاحترام المتبادل بين أفراد الأسرة الواحدة.

ولعل ظاهرة عصابات الشباب الآخذة في الانتشار في مجتمعنا تعد من الظواهر التي لم نعرفها من قبل؛ فقد كان مجتمعنا مثالاً للبيئة الآمنة المستقرة. أما اليوم فإننا نقرأ في الصحف عن جرائم الشباب وعصاباتهم، وما أصبحوا منجرفين وراءه من سلوكيات عنيفة بعيدة كل البعد عن قيم ديننا الحنيف وما تعارف عليه أهل هذا البلد الطيب.

إن هذه العصابات من الشباب لم تنشأ من فراغ، ولم تتقو ويشتد عودها إلا لأسباب كثيرة معقدة نحتاج أن نكشفها وأن يدور في شأنها حوار عميق طويل يدرسها ويحلل ما يثوي وراءها من دواع وتداعيات كثيرة.

لا شك أنّ الأسرة تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية هذا الأمر، ولكنّ المجتمع لا يعفى من مسؤوليته أيضاً؛ فكثير من الأسر تفتقر إلى عناصر التواصل الصحيح، وكثير منها يعتمد العنف والإكراه والتقليل من شأن الشاب أسلوباً في تربيته، وبعض الشباب يعاني من الإهمال التام الذي يولّد لديه الحاجة إلى الانتماء إلى جماعة ما، أياً كانت هذه الجماعة، لتجبر كسره، وتكون له ملاذاً وملتجأً.

يحتاج أمثال هؤلاء الشباب إلى من يحاورهم ويسمع منهم وينصحهم، ويتفهم ميولهم نحو العنف، فيحاول أن يصححها ويوجهها التوجيه الصحيح السليم. هؤلاء الشباب في حاجة إلى ملتقيات للحوارات المفتوحة الحرة التي لا تصادر على آرائهم ولا تنتقص وجهات نظرهم، وتحترم رؤاهم، حتى إن كانت تخالف ما تعارف عليه الكبار.

إنّ الاستماع إليهم في جو يشعرون فيه بالاحترام قد يضمد في نفوسهم جراحاً عميقة، وقد ينجح في أن ينتشل بعضهم من ظلمات بلا قرار قد يغرق فيها إلى الأبد. وهذه الملتقيات قد تكون من مسؤولية المدارس والأندية الثقافية التي تستطيع - إن نجحت في جذب الشباب لمثل هذه الملتقيات ـ أن تكون معبراً لهم إلى أفق جديد آمن يبعدهم عن مزالق الشيطان، ودروب الفشل والسقوط.

ولا شك أنّ شبابنا يعاني الكثير من المشكلات الخطيرة الأخرى من مثل تعاطي المخدرات، والسلبية في التعامل مع مشكلات الحياة، واللا مبالاة بالشؤون العامة، وعدم الجدية، وإهدار الوقت، وغيرها كثير من الظواهر والسلوكيات التي لا يكفي فقط أن نناقشها في ندوة أو مؤتمرـ أو أن نكتب عنها مقالاً أو مقالات. إنها قضايا جوهرية تمس مستقبل المجتمع بعمق، وتحتاج إلى تحليل عميق ودراسة مخلصة وجهود حثيثة يتضافر فيها الجميع بصدق وعزم لنتمكن من احتوائها والسيطرة عليها حتى يبقى بلدنا ـ كما عهدناه ـ طيباً لا ينبت إلا الطيب الكريم.

جامعة الإمارات

Email