مدينة قلهات.. اللغز المفقود بين التاريخ والجغرافيا ـ محمد عيد العريمي

مدينة قلهات.. اللغز المفقود بين التاريخ والجغرافيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

تُعد قلهات من أقدم المدن والموانئ العُمانية وتقع على حافة جرف بحري يبعد عن مدينة صور عاصمة المنطقة الشرقية بحوالي 25 كم باتجاه الشمال الغربي، وتبعد عن مدينة مسقط بنحو 150 كم إلى الجنوب الشرقي. وعلى غرار السائد عرّفتُ المدينة بوصف جغرافيتها، وتجاهلت التاريخ وإن كان هو الأسبق!

كيف للمرء أن يتحدث عن عظمة مكان حين يمر التاريخ غير مبال بهذه الأهمية التي اكتسبها ذلك المكان عبر ملايين السنين. ما أصعب أن يجد الإنسان نفسه مشتتاً بين ما يحكيه له المكان من خلال عناصر كينونته وذلك التجاهل المدمر الذي تنطوي عليه المصادر التاريخية لمكان ما، لا لأنه لا يستحق أن يؤرخ وإنما أراد الله له أن يكون في مكان منزو وعر التضاريس وبعيد حيث لا يعرفه احد ولا يصله غير الشغوفين بتبر التراب.

وإلى أن يتم العثور على اكتشافات أثرية قيمة تزيح الغموض، سيظل تاريخ قلهات.. المدينة التاريخية لغزاً محيراً للمؤرخين المعاصرين والمهتمين بتاريخ هذا الجزء من عُمان. ويرجع هذا الإحساس إلى صعوبة فهم الأهمية العظيمة التي اكتسبتها المدينة يوماً ما.

ورغم أن قلهات حظيت بزيارة عدد من الرحالة والمستكشفين إلا أن إشاراتهم للمدينة لم تتعد وصف ما شاهدوه دون البحث عن تاريخه. فقد زارها الرحالة ماركو بولو في القرن الثالث عشر الميلادي في أوج ازدهارها وأطلق عليها اسم «قلاياتي» تأثراً بلغته الايطالية، وذكر في أخبار رحلاته المدينة ووصف ميناءها الكبير الذي تؤمه بكثرة سفن التجارة القادمة من الهند بسب أهمية موقعه كميناء تجاري وسيط لنقل مختلف البضائع والسلع إلى مناطق عُمان الداخلية.

وقال الرحالة الإيطالي عن سكانها: «عرب يخضعون لهرمز وكلما وجد ملك هرمز نفسه في حرب مع ملك أقوى منه لجأ إلى مدينة قلهات لمناعتها وموقعها الاستراتيجي وتحصيناتها»، وقال أيضا: «وتشتهر قلهات بتربية الخيول العربية الأصيلة وتصديرها إلى الهند بعدد كبير يفوق الخيال».

وأشار الرحالة العربي ابن بطوطة في كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، إلى زيارته لقلهات، التي جاءت بعد زيارة ماركو بولو بخمسين عاما، حيث أشاد بجمال المدينة وخاصة مسجدها الذي أقيم على الطراز الأسباني، فيقول «يوجد في قلهات أسواق ممتازة ومسجد جميل زين بالقرميد.. يقع فوق رابية تطل على المدينة ومرفأها. أهلها أصحاب تجارة تعتمد كلياً على التعامل مع السفن التجارية القادمة من الهند».

وغير ما قاله الإيطالي ماركو بولو، والعربي المغربي ابن بطوطه، والاثنان رحالة وليسا مؤرخين، ليس ثمة إشارات واضحة ودقيقة عن تاريخ المدينة.. لا عن ازدهارها ولا عن اندثارها غير تلميحات هنا وأخرى هناك لا تسمن ولا تغني من جوع. ومنها ما وصفه ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان حين قال «فرضة بلاد عُمان. لكثرة ما ترسوا فيها السفن القادمة من الهند والمتجهة إليها، وهي من أجمل المدن العُمانية وأهم الموانئ البحرية في منطقة المحيط الهندي».

ووصف مايلز، المقيم البريطاني في مسقط خلال الفترة ما بين 1872 ـ 1880م، قلهات التي زارها عام 1874، في كتابه «الخليج بلدانه وقبائله» بما هي عليه الآن: بقايا حضارة اندثرت معالمها ولم يبق منها غير أطلال وبقايا آثار جراء الزلزال الذي سوى بها التراب.

وإذ ذاك، يصبح من الطبيعي عدم معرفة تاريخ نشأة المدينة، ولكن من المثير أن يكون لها وجود مميز خلال حقبة متأخرة من تاريخ المنطقة. ومما يذكره «المؤرخون» أن «مالك بن فهم» وأفراد قبيلة «الازد» اتخذوا من قلهات محطة توقف خلال هجرتهم من اليمن إلى عُمان في القرن الثاني الميلادي، حيث أعادوا تجميع قواتهم وتركوا نساء القبيلة فيها قبل توجههم لمداهمة الفرس في قواعدهم بمدينة صحار وذلك بسب رفض الفرس الشديد لمجيء الازد إلى عُمان.

ولعل الفرس عرفوا مدينة قلهات من قبل، وربما طردوا منها، لكنهم عادوا إليها خلال الغزو الهرموزي عام 1300م وطوروها لتحتل مكانة بارزة كأكبر ميناء على طول الساحل العُماني، وكعاصمة ثانية لإمبراطورية هرموز التي امتد نفوذها آنذاك مابين العراق والهند وشرق أفريقيا. والاحتمال الآخر هو أن قلهات برزت كمركز تجاري نتيجة ازدهار جارتها صور، الأقدم تاريخياً والأكثر أهمية آنذاك.

ورغم تعرض المدينة، في نهاية القرن الخامس عشر لهزة زلزالية أتت على جزء كبير منها، إلا أنها ظلت قائمة حتى عام 1508 حين أتى الفونسو دي البوركويرك قائد القوات البرتغالية الغازية على ما تبقى منها وسوى بها الأرض. عن ذلك يقول صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة في كتابه «تقسيم الإمبراطورية العُمانية 1856 ـ 1862م»: «بدأ البرتغاليون في سنة 1506 احتلال المدن الساحلية العُمانية،

والتي كانت تحت سيطرة ملك هرمز. إن العمل الهمجي الذي قامت به القوات البرتغالية الغازية من تهديم المدن بعد استسلامها وتقطيع أنوف وآذان السجناء في المدن العُمانية المختلفة لتخويف ملك هرمز قبل الهجوم عليه يعد جبناً وخزياً للقوات البرتغالية». وحين ينظر المرء إلى الشريط الساحلي الممتد من قلهات إلى رأس الجنز في نيابة رأس الحد، والبالغ طوله 75 كم، لا يسعه إلا أن يربط بين ثلاثة مواقع مهمة شهدت خلال حقبات متأخرة ازدهارا حضارياً متقدماً، وهي: قلهات، مدينة صور، ورأس الجنز.

فقد ذكر المؤرخ والرحالة اليوناني هيردوتس ( 484 ـ 425 قبل الميلاد) المعروف بأبي التاريخ، في كتابه «التاريخ» أن الفينيقيين هاجروا من مدينة صور العُمانية إلى الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط قبل 3500 سنة واستقر بعضهم في لبنان حيث أسسوا على ساحلها مدينة أطلقوا عليها الاسم نفسه.

ويذكر أن سكانها قالوا له إن أجدادهم نزحوا من الخليج حيث كانت لهم مستوطنات على طول سواحله وجزره ونقلوا معهم فنون الملاحة التي برعوا فيها في البحار العربية فتمكنوا من مد نفوذهم التجاري وبسط حضارتهم العظيمة على الساحل المتوسطي والشاطئ الإفريقي. ويعتبر هيرودوتس نقلاً عن كهنة مدينة صور الفينيقيين في أيامه بأن هذه المدينة أنشئت قبل 2300 سنة من تلك الأيام.

وأظهرت الاكتشافات أن الأبجدية شهدت ولادتها الأولى في منطقة رأس الجنز في الألف الثالث قبل الميلاد، وإثر عمليات مسح أولية للموقع في عام 1981م، عثرت بعثة إيطالية فرنسية مشتركة على ما يؤكد أهمية المنطقة التاريخية، فقد اكتشفوا قطعاً فخارية قديمة ذات زخارف تعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد، وأسفرت عمليات تنقيب لاحقة عن اكتشاف مجموعة متنوعة من القطع الأثرية ذات قيمة تاريخية غاية في الأهمية الأمر الذي أذهل خبراء ومستكشفين كثر.

بيد أن أهمية هذه المكتشفات لا تكمن في قيمتها الذاتية، وإنما فيما كانت تشير إليه حول علاقة سكان تلك المنطقة القدامى بمحيطهم. وتدل تلك المكتشفات على أنهم كانوا صيادين مهرة وأصحاب صناعات متقدمة بمقاييس تلك الحقبة من التاريخ، وأشارت أيضاً إلى صلات المنطقة التجارية بمناطق أخرى قريبة وبعيدة.

ويعتبر ضريح بيبي مريم من الآثار التاريخية المتبقية الدالة على أهمية قلهات التاريخية حيث زين المبنى بنقوش بديعة وله قبة متناسقة الأبعاد تهدم بعض أجزائها وتتشابه جدرانها الأربعة في التصميم والزخرفة إلى جانب العديد من الآثار كخزان لمياه الشرب وحوض ماء إضافة إلى بعض المباني وآثار القبور وسور يحيط بالمدينة.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن «بيبي مريم» كانت تحكم قلهات إبان حكم قطب الدين ملك هرمز خلال زيارة ابن بطوطة للمنطقة، في حين يقول السكان المحليون إنها امرأة طاعنة في السن قامت بعمارة المسجد وخدمته إلى أن توفاها الله.

ومهما اختلفت الآراء وتباينت حول حقيقة مدينة قلهات وأهميتها السياسية والاقتصادية إبان سيطرة البرتغال على المنطقة ومن قبلهم الفرس، أو حول كونها أول عاصمة سياسية لعُمان في القرن الثاني قبل الميلاد حين حل فيها مالك بن فهم الأزدي واتخذ منها محطة توقف خلال هجرته من اليمن،

وكقاعدة لتجميع قواته لمداهمة الفرس في قواعدهم بمدينة صحار في شمال عُمان، وكعاصمة ثانية لإمبراطورية هرموز التي امتد نفوذها آنذاك ما بين العراق والهند وشرق أفريقيا، إلا أن قلهات التي كانت تتناوب المجد مع شقيقتها صور ساهمتا على مدى قرون في شهرة عُمان البحرية،

ولعبتا دوراً بارزاً في تاريخ المنطقة كلها، فقد كانت مهارات أبنائها بفنون الملاحة ومعرفتهم الواسعة بأسرار البحر جسراً عبرت عليه حضارات معظم الشعوب المطلة على بحر العرب وغرب المحيط الهندي. وكان لسفنهم دور رائد في نقل العُمانيين وأبناء المناطق الجنوبية من الجزيرة العربية لاستكشاف وفتح الساحل الشرقي من أفريقيا ونشر الدين الإسلامي والثقافة العربية في أنحاء كثيرة من أفريقيا وآسيا.

ولقد عرفتهم موانئ الخليج وبلاد فارس والهند، وأبحروا شرقاً مستعينين بالرياح الموسمية إلى مالابار بالهند أو جنوباً إلى الساحل الأفريقي حتى رأس ديلجادو ومدغشقر، ولقد تعزز دورهم أكثر فأكثر مع سيطرة العُمانيين على تجارة التوابل والحرير واللبان والخيول، وأصبحتا من الموانئ البحرية الرئيسية كصحار ومسقط.

كاتب عُماني

Email