عندما بكى اللواء الجمسي في مباحثات (الكيلو 101)، بقلم: يوسف الشريف

ت + ت - الحجم الطبيعي

في حياة كل شعب أحداث تاريخية نادرة لو أحسن استثمار تجاربها واستخلاص دروسها المستفادة لكان بوسعه اختصار الجهد والوقت والمال في التغلب على كثير من المشكلات المستعصية، وإحداث نقلة نوعية تؤهله لاستشراف المستقبل الأفضل، وذلك على وجه التحديد، ما حدث في معركة السادس من أكتوبر 1973 وشهادتي عليها كمراسل عسكري عاش في قلب وقائعها ساعة بساعة، ثم فارقها في آخر مباحثات الكيلو 101 بين اللواء ـ آنذاك ـ عبدالغني الجمسي وقائد الأركان الاسرائيلي اليعازر وتحت اشراف سلاسفو ممثلا للأمم المتحدة. ويومها أدركت الى أي حد كان انتصار قواتنا المسلحة مؤزرا ومؤثرا، عندما تقدم نحوي شاب يتحدث العربية باللهجة المصرية وقدم نفسه وقال أنه حفيد الموسيقار المصري اليهودي داود حسني ويعمل بقسم الأخبار في التليفزيون الاسرائيلي.. وكدت أن أعطيه ظهري وأنصرف بعيدا، لكنه استدرك قائلا: هذه فرصة العرب لفرض السلام من مركز القوة، فما من بيت الآن ولا أسرة في اسرائيل إلا ونكبت في قتيل أو جريح. كنت أراقب وقتئذ الخيمة التي تجري داخلها مباحثات «الكيلو 101»، ورأيت اللواء الجمسي عن بعد وهو يغادرها مرتين الى التواليت الميداني، ودار بخلدي أن يكون قد ضاق ذرعا بمساومات الجانب الاسرائيلي، أو ربما كان مريضا بالسكر، فلما انتهت المباحثات واختلى بالمراسلين العسكريين المصريين في خيمته الخاصة، لاحظت كم كان حزينا مكفهر الوجه وهو يفضي الينا بنتائج المباحثات وسألته بعدها بالحرف الواحد: هل تعتقد أن ما حصلنا عليه في المباحثات يساوي ما حققته قواتنا المسلحة من انتصارات على مسرح العمليات؟ وكأنني نكأت جرحا داميا، فقد لاحت الدموع في عينيه - أو هكذا خيل لي - وقال: دع الاجابة للتاريخ ومضت سنوات حتى أفضى في مذكراته بالحقيقة، وكيف كشف الرئيس السادات للادارة الأمريكية عبر كيسنجر عن خطته الخاصة وليست الخطة الموضوعة للحرب، من أن قواتنا المسلحة تخوض معركة تحريك وليست معركة تحرير، وأنها لن تتجاوز في تقدمها سوى بضع كيلومترات داخل سيناء، بل وذكر الجمسي كم وألوان الضغوط النفسية التي تعرض لها حتى يوافق السادات على خطط ومراحل الفصل بين القوات، والى حد البكاء في مكان آخر غير خيمته. ولم يكن هناك ما يبرر مواقف السادات آنذاك، فاذا كانت ثغرة الدفرسوار هاجسه ومبعث مخاوفه، فاللواء سعد مأمون أول قائد للجيش الثاني في معركة أكتوبر الذي كلفته القيادة العامة بوضع خطة تصفية الثغرة، كان على أهبة الاستعداد لصدور قرارها بتنفيذ المهمة خلال 48 ساعة إيذانا بنهاية الأسطورة التليفزيونية التي صنعها الاعلام الاسرائيلي، والشاهد أن أول محاولة اسرائيلية لشق تماسك قواتنا وفتح ثغرة وفقا لأسلوب القبضة الحديدية، واستهدفت في البداية موقع الفرقة الثانية مشاة بقيادة العميد ـ آنذاك ـ حسن أبو سعده، وعندما أدرك الموقف كانت لديه مساحة من حرية اتخاذ القرار المناسب باعتباره قائدا ميدانيا، فكان فشل هجوم اللواء الاسرائيلي وتدمير دباباته وأسر قائده اللواء عساف ياجوري. وتلك واحدة من أبرز الدروس المستفادة في معركة أكتوبر، سواء على صعيد اتخاذ القرار الميداني أو على صعيد وضع الخطة العامة في اطار ديمقراطي مما أتاح مشاركة كل العقول العسكرية والعلمية والفكرية، ومنها على سبيل المثال استخدام أسلوب خراطيم المياه التي سبق استخدامها في بناء السد العالي وأزاحت من طريق قوات العبور جبالا من الكثبان الرملية على امتداد خط بارليف، واختيار الوقت الملائم لإندلاع المعركة من حيث المد والجزر في قناة السويس، ويوم عيد كيبور الذي يمتنع فيه اليهود عن العمل، وأفضل وسائل الخداع والتمويه على نوايا الهجوم العربي، وتمكين جندي المشاة من القتال والصمود ثلاثة أيام في مواجهة الدبابات وسمك دروعها الفولاذية رغم سلاحه الخفيف ومحدودية الذخيرة والطعام، الى حين استكمال بناء الجسور وعبور المدرعات والدفاعات الجوية. واذا كان المراقبون قد أجمعوا على أن اداء الجندي المصري كان مفاجأة معركة أكتوبر باعتبارها أول حرب للأسلحة المشتركة في تاريخ العسكرية المصرية وأول حرب اليكترونية في التاريخ، فلعلنا من هنا نستعيد دروسها المستفادة وتوظيفها في عملية النهوض الشامل من كبواتنا في شتى المجالات عبر الايمان بحتميات التخطيط العلمي، وفتح أوسع أبواب المشاركة الديمقراطية أمام كل العقول والخبرات القادرة على العطاء والخلق والابداع، لا أن تنزل الخطة من أعلى وعلى الشعب الطاعة والإذعان، ليس فقط على الصعيد الوطني ولكن أيضا على الصعيد القومي. فبينما نواجه مشروعا أو خطة صهيونية ثابتة ومتحركة على مدى يزيد عن نصف قرن، نكتفي من جانبنا كعرب برد الفعل والرهان على المجهول! ـ كاتب مصري

Email