من نتائجها زيادة الفوارق الاجتماعية وتهديد وظائف الخريجين

الأتمتة تهدد بأزمة في السياسة العامة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في يناير 2015، نشرت مجموعة من الشخصيات البارزة في مجال التكنولوجيا العليا والعلوم مع خبراء في الذكاء الاصطناعي ورقة عمل تدعو الى البحث في التأثيرات المجتمعية للذكاء الاصطناعي. فشوهت وسائل الإعلام الدعوة، ووضعت صيغتها الأصلية في سيناريوهات تناسب يوم القيامة.

ومع ذلك، فإن بعض المفكرين يحذرون من المخاطر الجدية التي يطرحها الذكاء الاصطناعي، ويستحضرون ضمناً فكرة «التفرد التكنولوجي» التي أشار إليها آي جيه غودز، لتأكيد مخاوفهم.

ووفقا لهذه الفكرة، فان الآلة الحسابية سوف تتحسن من ناحية الكفاءة بمعدلات نمو مطردة، وتصل إلى النقطة التي بإمكانها تصحيح عيوبها وبرمجة نفسها لإنتاج وسطاء فائقي الذكاء الاصطناعي يتفوقون على القدرات البشرية في كل مجال إدراكي عملياً، ويمكن أن تشكل تلك الآلات فائقة الذكاء تهديداً وجودياً للإنسانية.

ومع استمرار زيادة قدرة الأجهزة على المعالجة والتخزين والتكنولوجيات الأخرى، يقول علماء من أمثال راي كورزويل إن قوة الذكاء الاصطناعي ستتوسع، وتصل إلى نقطة التفرد تلك.

توقعات ليست في مكانها

تبدو هذه الحجج لمفهوم التفرد في أحسن الأحوال، أمرا مشكوكا به. وفي أي حال، فإنها في النهاية سوف تصطدم بقيود الفضاء والزمان وقوانين الفيزياء. علاوة على ذلك، تعتمد تلك الحجج على تناظر في غير محله بين الزيادة المطردة في قوة الأجهزة والتكنولوجيا في العقود الأخيرة ومعدل التطور المتوقع للذكاء الاصطناعي.

وقد تم إحراز تقدم هائل بكل تأكيد في التعلم العميق للشبكة العصبية التي انتجت تقدماً دراماتيكياً في إدارة بعض أنظمة الذكاء الاصطناعي، في التعرف على الكلام والأشياء المرئية والعديد من المجالات الأخرى. وكانت الزيادة الدراماتيكية في قوة المعالجة وتوفير كميات كبيرة من البيانات، القوة الدافعة وراء هذا التقدم. ومع ذلك، فان القفزة من هذا التعلم إلى الذكاء الفائق تبدو لنا أكثر من خيالية.

في المقام الأول، كل التقدم المذكور كان في وضعية الإشراف. وكما يقول رواد هذه التكنولوجيا فإن هذه الوضعية تعد استثناء وليست قاعدة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا التقدم الأخير كان في مهام اختصاصية ضيقة مثل التعرف على الصور، وليس في مهام التعلم الأشمل، الذي يتطلب منطقاً أكثر تعقيداً.

ولا تعمل تلك الخوارزميات في دائرة مغلقة من التحسين الذاتي كما تم تصويرها. ولم يكن التقدم في التعلم العميق ومجالات أخرى في الذكاء الاصطناعي مطرداً بأي معنى من المعاني، بل يأتي على شكل فورات غير نظامية وغير متوقعة، كما الإنجازات في مجال العلوم والهندسة.

ويسعى العمل في مجال التكنولوجيا الذي يقوده الذكاء الاصطناعي عموماً، إلى حل مهام معنية، بدلاً من قولبة الذكاء البشري العام. وهو أكثر كفاءة في تأدية تلك المهام بنماذج لا تعمل بالطريقة التي يعمل بها الدماغ البشري، تماما كما نبني طائرات نفاثة بدلاً من آلات تحلق مثل الطيور.

حالة بدائية

وقد احتلت «ديب مايند» لغوغل عناوين الصحف أخيراً من خلال إظهار كيف أن تركيبة من التعلم يمكن استخدامها لبناء نظام يتعلم ألعاب الفيديو «الأتاري»، وحتى التغلب على بطل العالم في لعبة الشطرنج. لكن مع وجود مهام أكثر تعقيداً، يتفق العلماء بأن العلم والتكنولوجيا المرتبطة بمثل هذه المقاربة هي في حالة بدائية كلياً حالياً.

فما هو احتمال وسطاء الذكاء الفائق من النوع الذي يقلق بشأنه الرياضيون والفلاسفة؟ وفيما من الصعب احتساب احتمال التفرد، فان الحجج هنا تشير بأنه صغير جداً، على الأقل في المستقبل المنظور، وهذه وجهة نظر معظم الباحثين.

أتمتة الوظائف

وعلى النقيض من عوامل الذكاء الفائق، فإننا نواجه حاليا تهديداً حقيقيا جداً في الذكاء الاصطناعي من نوع آخر مختلف كلياً. ويظهر علماء أمثال برياجولفسون وماكافي وفورد، بأن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تعمل على أتمتة عدد كبير من الوظائف. وهذا الاتجاه كان يزداد بشكل حاد في السنوات الأخيرة.

ويهدد حالياً مهنيين بتعليم عال من محاسبين إلى مستشارين طبيين وقانونيين. تقارير متنوعة تقدر أنه ما يصل إلى 50% من الوظائف في الاقتصادات الغربية مثل الولايات المتحدة والسويد يمكن أن تختفي عبر الأتمتة على مدى العقود القليلة المقبلة.

وكما يلاحظ الخبيران برياجولفسون وماكافي، في نهاية كتابهما، فإن صعود الأتمتة التي يقودها الذكاء الاصطناعي سوف يفاقم بشكل كبير الفوارق الحادة في الثروات بين أولئك الذين يصممون ويبنون ويسوقون ويملكون تلك الأنظمة من جهة، وباقي السكان من جهة أخرى.

تقارير مقدمة إلى مؤتمر دافوس طرحت توقعات مماثلة. ولم تطور الحكومات والمخططون الحكوميون برامج واقعية للتعامل مع الاضطرابات الاجتماعية الهائلة التي يمكن أن يسببها مثل هذا التهجير الاقتصادي.

اعتراض يذكر باستمرار لهذه المخاوف هو أنه فيما التكنولوجيا الحديثة يمكنها تدمير بعض الوظائف، فإنها تولد وظائف جديدة تستوعب قوة العمل المهجرة. هذا كان دائما الوضع في السابق، حيث وجد العمال الزراعيون العاطلون عن العمل وظائف في المصانع. فلماذا ينبغي أن يكون الوضع مختلفاً هذه المرة؟

يقول برايجولفسون وماكافي بأن تكنولوجيا المعلومات مثل الذكاء الاصطناعي مختلفة عن التكنولوجيا السابقة في كونها تكنولوجيا بهدف عام، لديها تأثير واسع الانتشار عبر أجزاء كثيرة مختلفة من الاقتصاد.

ويقول برياجولفسون وماكافي وفورد إنه لا يوجد شكل من الوظائف محصن ضد الأتمتة من قبل أنظمة الذكاء الاصطناعي. ويشير عالم الاقتصاد في «أم آي تي» ديفيد اوتور الى تغييرات بنيوية طويلة الأمد عميقة في الاقتصاد كنتيجة مباشرة لتلك التكنولوجيا.

ومن الطرق التي يمكن لأنظمة يقودها الذكاء الاصطناعي أن تحسن الإنتاج والخدمات مع تفادي بطالة واسعة، هو عبر الشراكة بين الناس والآلات، وهو موضوع يظهر في كتاب جون ماركوف، حيث يشير إلى أن تركيبة من البشر والآلات هي أكثر قوة من أي واحد منهما بمفرده.

أقوى لاعب شطرنج اليوم، على سبيل المثال، ليس إنساناً وليس كمبيوتراً إنما فريق من البشر يستخدم الكمبيوترات. هذه أيضا رؤية «أي بي إم واتسون» للحوسبة المعرفية. على سبيل المثال، فإن طبيباً بشرياً بمساعدة من «مساعد واتسون» سيكون أكثر فاعلية في تشخيص ومعالجة الأمراض من واتسون أو الطبيب وهما يعملان بصورة منفصلة.

وفيما التعاون بين البشر والآلة هو وسيلة واعدة للاستكشاف على المدى القصير إلى المتوسط، فليس واضحاً مدى نجاح هذا الأمر، وبحد ذاته ليس حلاً مناسباً للقضايا الاجتماعية التي تفرضها أتمتة الذكاء الاصطناعي. وهذه تشكل أزمة رئيسية في السياسة العامة.

وفي سبيل معالجة هذه الأزمة بشكل فعال، فإن على المخططين الحكوميين المتعلمين أن يعملوا معاً مع علماء الكمبيوتر والتكنولوجيا في الصناعة لرفع التأثيرات المدمرة للتغييرات التكنولوجية السريعة على الاقتصاد. ويتوقف تماسك النظام الاجتماعي على نقاش ذكي لطبيعة هذا التغيير، وتطبيق سياسات عقلانية لتعظيم المنافع الاجتماعية العامة منه.

 

 

 

Email