نـار مُلتهبة.. تتأجج في شبه الجزيرة الكورية

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تعد شبه الجزيرة الكورية هادئة، بل أصبحت حالياً ناراً راقدة فوق المياه الزرقاء، تنتظر شرارة من يشعلها خصوصاً بعد تصاعد حدة الأجواء الملتهبة بين واشنطن وبيونغيانغ بعد إرسال أميركا قوة بحرية ضخمة بقيادة حاملة الطائرات النووية «كارل فينسون» باتجاه شبه الجزيرة الكورية، كل هذا يزيد من التوتر في المنطقة، ويوسع احتمالات حصول مواجهة عسكرية فعلية بين البلدين.

ربما يكون مجيء الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلطة له تأثير أكبر بكثير على مجريات الأحداث في العالم، وربما لا، ولكن شخصية تقود أكبر دولة في العالم كشخصية ترامب، ووجود شخصية تتزعم كوريا الشمالية كشخصية كيم يونغ، هو بداية حلقة عنيفة من النزاعات الكبرى التي قد تنتهي بالحروب، بل وقد تكون الحرب العالمية الثالثة على الأبواب.

ولطالما تشهد الساحة الدولية سجالاً كلاميّاً بين القوتين النوويتين على خلفية تهديدات الطرفين بشن حرب نووية على الآخر، إلا أنه لم يصل إلى حد الاحتكاك المباشر، ففي كل مرة تطلق كوريا الشمالية تجارب على برنامجها النووي، يصدر من واشنطن تعليق يدين التجربة، ويهدد بردعها دون الوصول إلى حد الحرب الحقيقية.

إلا أن ارتفاع منسوب التوتر في الآونة الأخيرة دفع الخبراء إلى توقع احتمالية نشوب حرب بين البلدين، فالتهديد الكوري الشمالي لم يعد يقتصر على أسلحة تكتيكية كلاسيكية، بل بات يشمل ترسانة قوية من الأسلحة النووية والصواريخ الباليستية القادرة على حمل رؤوس نووية.

ودائرة الاستهداف باتت أوسع الآن، ولم تعد تهدد جارتها الكورية الجنوبية واليابان فحسب، بل باتت تشمل حتى الشواطئ الغربية للولايات المتحدة الأميركية.

استمرار الخلافات

الخلافات المتفاقمة بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في المنطقة، لا تزال في ظل استمرار حالة التوتر والاستفزازات المتبادلة تشكل مصدر قلق كبير للعديد من دول العالم، التي تخشى من خروج الأمور عن السيطرة وهو ما قد يتسبب بحدوث حرب كارثية يصعب التنبؤ بنتائجها، خصوصا وان بيونغــيانغ اصبـــحت وعلى الرغم من العقوبات الدولية تمتلك قدرات صاروخية متطورة.

وأصبح السؤال الذي يتردد في كل أنحاء العالم هل تستعد أميركا لتوجيه ضربات ضد كوريا الشمالية أم تضغط لإجبارها على وقف تجـــــاربها النووية، والقبول بصفقة لتجميد برامجها النووية والصاروخية الباليستية؟ لا أحد يملك إجابة محددة على هذا السؤال، لكن بيونغيانغ لا تنوي التخلي عن طموحاتها النووية.

وقامــت الولايات المتحدة بإنشاء نظام دفاع صاروخي في كوريا الجنوبية. وتنظر إدارة ترامب إلى سعي كوريا الشمالية إلى امتلاك صواريخ عابرة للقارات وقادرة على الوصول إلى سان فرانسيسكو باعـــتباره مبررا للحرب.

وإذا طبقنا مقياس الألوان المستخدم اليوم لتصنيف مستويات التهديد الإرهابي على الأزمة في شبه الجزيرة الكورية، فسوف يظهر تحولا من البرتقالي إلى الأحمر. ومن المرجح انه ستظل كل الخيـــارات مطــروحة، بما فيها قيام واشنطن بتوجيه ضربات جديدة إلى سوريا، لإثارة قلق بيونغيانغ ودفعها لاتخاذ موقف أقل تشددا.

التحالف العسكري

النقطة الأكثر ضعفاً في التحالف العسكري الأميركي الكوري الجنوبي الياباني في الحرب المحتملة مع بيونغيانغ هي عاصمة كوريا الجنوبية سيئول، التي يفصلها عن الحدود مع كوريا الشمالية فقط 24 كيلومترا. لذلك فإن إنقاذ العاصمة الكورية الجنوبية يعتبر المهمة رقم واحد في أي صراع عسكري مفترض.

ويبدو أن دبلوماسية الانتظار والترقب التي تبنتها إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما طوال ثماني سنوات لم تحقق لأميركا غير السراب، فبيونغيانغ استغلت كل هذا الوقت في تطوير قدراتها النووية والصاروخية الباليستية، ونجحت في تصغير الرؤوس النووية بما يسهل حملها إلى أهداف بعيدة المدى.

ومع ذلك يعتقد معظم الخبراء العسكريين بأن احتمال حصول مواجهة عسكرية مباشرة بين أميركا وحلفائها من جهة وكوريا الشمالية من جهة أخرى يبقى ضئيلاً بسبب المخاطر الجمّة التي يمكن أن يتحملها الجانبان والتي يرجح أن تتوسع رقعتها إلى مناطق أخرى من العالم لوجود قوى إقليمية ودولية لا يمكن التكهن بردود أفعالها في الوقت الحاضر.

وتطرح نقاط استفهام كثيرة ازاء قدرات كوريا الشمالية في مجال التحميل النووي. اذ يعتقد عدد كبير من المتخصصين ان بيونغيانغ لا تزال بعيدة من تطوير صاروخ باليستي عابر للقارات قادر على ضرب أراضي القارة الأميركية.

كذلك ليس مؤكدا حتى الآن ان يكون اي صاروخ مصغر صنعته كوريا الشمالية قادرا على تحمل الصــدمات والاهتزازات، ويستبعد عدد كبير من المتخصصين ان تقدم كوريا الشمالية على شن ضربة نووية من اي نوع كان. ويرون ان ذلك قد يكون عملا انتحاريا نظرا الى التفوق الساحق للتكنولوجيا الأميركية.

قوة عسكرية كبيرة

ويؤكد مختصون أن كوريا الشمالية تواصل تجاربها الصاروخية والنووية لكسب صخب إعلامــي وردع أي محاولات لتخويفها قـــصد تقديم أي تنازلات، وأنها على قناعة تامة أنها لن تؤخذ على محمل الجد في أية محادثات، إلا إذا دخلتها وفي حوزتها قوة عسكرية كبيــــرة وتهديد كبير يزداد معه حجم المخاطر المحتملة، ومع تهديدها المستمر بأن التدريبات العسكرية التي أجريت في المنطقة ستستجلب رد فعل انتقاميا، يعترف المحللون بأن عدم القدرة على قراءة نوايا بيونغيانغ وعدم التقدير الجيد لقدراتها جعلا الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية عالقين في مستنقع كوريا الشمالية.

استبعاد الحرب

الصراع بين كوريا الشمالية وأميركا وحلفائها يبدو للوهلة الأولى أنه بلغ درجة خطيرة من الاحتقان، تنذر بوقوع حرب مدمرة، لكن المتابعين والمراقبين للشأن الكوري يعلمون جيداً، أن فرص وقوع حرب بعيدة، وأن الأمر لا يعدو بين الجانبين إلا مناورة من أجل إظهار الإمكانات الفعلية للجيش الكوري الذي يعتبر الرابع عالمياً من حيث القوة والعدد، في وقت فيما عمدت كوريا الجنوبية إلى عقد تحالفات عسكرية وتسليحية مع واشنطن، في حين برزت الصين ومنذ سنوات طويلة كقوة اقتصادية عظمى ومنافسة رئيسية لأميركا في هذا المجال سواء في هذه المنطقة أو في عموم العالم.

ومن الواضح أن بيونغيانغ لا تريد الدخول في مفاوضات أو القبول بصفقة مع الولايات المتحدة، حتى تعترف ببيونغيانغ كقوة نووية، وهو ما قد يساعدها على فرض شروطها في أي مفاوضات لاحقة، سواء مع الولايات المتحدة، أو جارتيها كوريا الجنوبية واليابان.

وفي قمة فلوريدا الأخيرة بين واشنطن وبكين، حاول ترامب إقناع نظيره الصيني شي جين بينغ بالضغط على الرئيس الكوري الشمالي، لإقناعه بإبطاء البرنامجين النووي والصاروخي الباليستي، باعتبار الصين هي الحليف الأول لكوريا الشــمالية، ومزودها الرئيسي بالغذاء والنفط، لكن الرئيس الصيني لم يتحــمس للاقتراح الأميركي. وتدرك بكين أن ممارستها لأية ضغوط على النظام الكوري الشمالي قد تؤدي إلى تصدعه، مــا يعني ظهور قوة جديدة غير مرغوب فيها ومدعومة أميركيا في شبه الجزيرة الكورية، وهذا ما يعتبره الصينيون تهديدا لأمنهم القومي.

توظيف التوتر

ويعتقد المراقبون بأن أميركا تسعى لتوظيف هذا التوتر لتحقيق أهدافها بتعزيز تواجدها العسكري في هذه المنطقة الحساسة والمهمة من العالم خصوصاً في بحر الصين الجنوبي وشرقه بذريعة مواجهة الخطر النووي والصاروخي لكوريا الشمالية، ذلك من أجل محاصرة الصين، ذلك العملاق الاقتصادي القادم الذي بات يؤرق الاقتصاديين ورجال السياسة الأميركيين الآن أكثر من أي وقت مضى، مع تزايد النفوذ الاقتصادي الصيني ونمو الصناعة بشكل هائل، لكن من غير المتوقع أن تترك بكين وموسكو، بيونغيانغ وحيدة في حالة اندلاع أي مواجهات بينها وبين المعسكر الغربي، وستركز القوتان النوويتان على بذل كل الجهد من أجل منع واشنطن من الاستئثار بهذه المنطقة الاستراتيجية المهمة من العالم.

وكتب ترامب في مارس الماضي على حسابه الشخصي في موقع تويتر أن: كوريا الشمالية تبحث عن المتاعب.. وإذا قررت الصــــين المساعدة، فسيكون أمراً رائعاً. وإلا فســـنحل المشكلة بدونهم.

عين على الصين

ويبقى الشيء المؤكد أن جميع الإجراءات التي يقوم بها البيت الأبيض هي وضع مسار للمواجهة، وليس فقط مع كوريا الشمالية، ولكن أيضاً مع الصين، فأي عمل عسكري ضد كوريا الشمالية هو تهديد أيضا للصين، التي أعلنت أنها ضد الهيمنة الأميركية على العالم.

فإدارة ترامب قد هددت بالفعل باتخاذ تدابير حرب تجارية ضد الصين وشن العمل العسكري ضد الجزر الصينية في بحر الصين الجنوبي، حيث نشرت أميركا من ارتفاع عالٍ بطارية مضادة للصواريخ الباليستية في كوريا الجنوبية، والتي تعد جزءا من شبكة من الأنظمة المضادة للصواريخ.

ويؤكد البعض أن التوصل إلى حل دبلوماسي لن يتحقق إلا إذا تعاونت الولايات المتحدة والصين بشكل وثيق مع تجنب تكرار أخطاء الماضي.

من خلال تحسين إدارة ترامب صنعا بعدم ملاحقة سياسة مفرطة العدوانية في التعامل مع الصين في بحر الصين الجنوبي، في ضــوء الأزمة المتنامية بشأن شبه الجزيرة الكـــورية، حيث انه بات من الواضح على نحو متزايد أن الولايات المتحدة، حــــتى في ظل رئاسة ترامب، لا تستطيع ببساطة أن تتنصل من دورها كقوة داعمة للاستقرار على الساحة العالمية.

ولكي تثبت الصين أنها أيضا من الممـــكن أن تعمل كقوة داعمة للاستقرار في القرن الحادي والعشرين، فيتعين عليها أن تضطلع بدورها لحل الصراع على شبه الجزيرة الكورية.

Email