معركة الأمعاء الخاوية..خيار الأسرى حين يتساوى الموت والحياة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليس من السهل على الإنسان أن يلجأ للامتناع عن تناول الطعام بشكل مفتوح، لأنه خيار قاس وصعب، ولا يلجأ إليه الإنسان سوى لدافعين، الأول سياسي يتعلق بأهداف وطنية عامة، والثاني مطلبي وحياتي وهو ما ينطبق على التجربة الاعتقالية الفلسطينية وما يتخلّلها من حالات عربية. في الحالة الثانية يأخذ الأسرى قرار الإضراب المفتوح عن الطعام حين يصبح الموت بالنسبة لهم أفضل من الحياة الذليلة.

قد يتساءل الشخص البعيد عن جدوى الإضراب وما الذي يجعل الاحتلال يستجيب لمطالب الأسرى المضربين، وربما يسأل أحدهم استنكارياً: وهل تقلق إسرائيل إذا استشهد أسير مضرب طالما أنها تمارس القتل المباشر؟

هذه في الواقع تساؤلات مشروعة تستدعي التوضيح، فالإضرابات، وفي مقدّمها معركة الجوع، هي الأسلوب الوحيد الذي أدى إلى تحسين ظروف الاعتقال في سجون الاحتلال حيث أكدت المسيرة الطويلة للأسرى أن حقوقهم تُنتزَع من السجان ولا تُعطى لهم منّة أو طواعية أو من شعور إنساني معدوم.

«إسرائيل» التي تحاول أن تروِّج نفسها عالمياً كونها واحة للديمقراطية، عندما تقتل أي فلسطيني ميدانياً، تتناول من جعبتها رواية جاهزة من قبيل «تهديد حياة جنودنا» بالسلاح أو الحجر أو الدهس أو الطعن، لكنها لا تستطيع تبرير استشهاد أسير في سجونها.

في حين أنه غير مسلّح ولا هو مزنّر بحزام نأسف ولا تستطيع اختراع أي سبب لوفاته. التفسير الوحيد الذي يحضر إلى ذهن أي حر في هذا العالم في حالة استشهاد أي أسير فلسطيني، هو أنه اختار الموت بديلاً للذل والقهر، ولا يمكن لشخص أن يموت ترفاً، وفي حالة الإضراب الجماعي تنتفي حتى فرضية الانتحار، لأن الأسرى ليسوا حيتاناً تموت انتحاراً على الشاطئ.

تهيئة مسبقة

من المهم لمن تهمّه قضية الأسرى أن يعرف أن عملية الإضراب عن الطعام في السجون لا تبدأ في اليوم الذي يشهد بدء الامتناع عن تناول الطعام، بل قبل ذلك بوقت كاف للتهيئة الشاملة داخلياً على مستوى الأسرى أنفسهم، وخارجياً على صعيد الرأي العام المحلي والعربي والإسلامي والدولي، بما في ذلك المنظمات الدولية ودوائرها والمنظمات الحقوقية.

داخلياً، تضع قيادة الحركة الأسيرة برنامجاً تعبوياً يعرّف الأسرى قليلي الخبرة والتجربة بأهمية النضال المطلبي وأرقى أشكاله ممثلاً بالإضراب عن الطعام، ويصار إلى استحضار كل تجارب الإضراب السابقة التي كان لها الفضل في تحسّن ظروف الأسر.

في الحملة التعبوية، عبر المنشورات الكتابية وشروحات الأسرى ذوي الخبرة، يعرف الأسير أن الأجيال الأولى من المعتقلين كانت إدارات السجون تجبرهم على إصلاح أغطية الدبابات وتنظيف بعض قطع السلاح، لكي تحطّمهم نفسياً وتضعهم تحت وطأة الشعور بالذل.

يعرف الأسير أيضاً أن الأجيال الأولى من الأسرى كانوا فرادى قبل أن يتحوّل الأسرى إلى حركة أسيرة منظمة ومهيكلة هرمياً، بحيث يقود الأسرى في كل سجن لجنة نضالية عامة يمثل فيها كل الفصائل، وعلى رأسها ممثل عام للمعتقلين ينطق باسم الجميع.

يعرف الأسير من خلال التعبئة أن الطعام كان يقدم في السجون مطلع السبعينيات، بالكاد يبقي الأسير على قيد الحياة، وأن الإدارة كانت تقسم البيضة لاثنين، وإنها كانت تقدّم لهم حساء من «البيكا»، وهي حبوب يقدّمها المزارعون الفلسطينيون للأبقار وتصنع منها أعلافاً للحيوانات.

يعرف الأسير أن الإدارة كانت تخضع الأسرى لتفتيش مذل كلما خرجوا إلى الساحة لدقائق قليلة. وفي ذروة العبئة يقتنع أنه يعيش ظروفاً أفضل صنعها من سبقوه، وعليه أن يناضل ليسهم في تحقيق ما هو أفضل لنفسه ولمن سيأتي، وقد يكون الآتي أخاه أو ابنه، والأمثلة على هذا كثيرة.

ساعة الصفر

وعندما تقترب ساعة الصفر التي يعرف بها سوى قيادة الحركة الأسيرة ودائرة ضيقة جداً حتى لا يتسرّب الأمر للإدارة، تتحول الحملة التحضيرية إلى توزيع منشورات يومية تتضمن معلومات صحيّة تفيد في كيفية التصرّف في كل مرحلة من مراحل الجوع.

خلال كل العملية التحضيرية، تكون قيادة الأسرى قد أرسلت رسائل مهربة إلى الفصائل في خارج السجن، وإلى الجمعيات الأهلية والنقابات والمحامين ومكاتب المنظمات الدولية وممثلي السلك الدبلوماسي، وكذلك إلى المنظمات العربية والدولية والفاتيكان، رسائل تخطر كل هذه الجهات بالوضع الخطر الذي يعيشه الأسرى، بحيث تكون مهيأة للدعم والمساندة حال الإعلان عن بدء الإضراب.

من المؤكد أن صمود الأسرى وفشل كل محاولات السجان في كسر إرادة الأسرى وإضرابهم سيجبر السجان على التفاوض وتلبية القسم الأكبر من مطالب الأسرى، لكن بقدر ما يأخذ الإضراب صدى في الشارع الفلسطيني والرأي العام العربي والدولي، بقدر ما تقصُر مدة معاناة الأسرى، وتقل احتمالات سقوط شهداء في صفوفهم قبل النصر.

حبر الدم

إذن، بمداد من حبر الدم يكتب الأسير الفلسطيني حكايته. يكتب أنه نسي كيف تكون السماء بلا أسلاك شائكة، وكيف يكون شرب الماء بلا خوف من الدقيقة التي تليه، وكيف يكون اليوم بلا عد ثلاث مرات، وكيف يكون الأكل بملعقة معدنية وشرب الشاي والقهوة بكأس زجاجية.

الأسير الغارق في غياهب النسيان يترك العنان لوجدانه في مخاطبة كل من تهمه حياة الإنسان ويحزن لضياع يوم واحد من عمره بعيداً عن الأهل والأحبة وفلذات الأكباد، ويطالبهم مشاطرته مأساة الفقدان لزهرة عمره داخل السجون.

Email