بعد 52 عاماً من الصراع الدامي والمدمّر

السلام في كولومبيا يخرج من القمقم الكوبي

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد صراع استمر لأكثر من 52 عاماً، أعلنت الحكومة الكولومبية وأكبر جماعة في المعارضة المسلّحة أنهما توصّلتا إلى اتفاق انتظره الكولومبيون بفارغ الصبر طوال عقود، ويضع حداً لهذا لنزاع المتواصل، ما يفتح الباب واسعاً أما «اجتياح» السلم الأهلي أراضي هذا البلد اللاتيني الذي يعاني ارتفاع معدلات الفقر والجريمة بكل أنواعها، وأغرقته النزاعات المسلّحة في مزيد من المآسي التي تبدأ بانعدام الأمان والسلم ولا تنتهي بشلال الدم ومسلسل التشرّد والقضاء على مستقبل جيل أو جيلين من الأطفال.

تاريخ الصراع

يعود تاريخ الصراع في كولومبيا في نسخته الحديثة إلى عام 1964 حين أسّس الفلاح مانويل مارولاندا لمنظمة «القوات المسلحة الثورية الكولومبية» (فارك)، والكاهن كاميلو تورّيس منظمة «جيش التحرير الوطني»، اللتين اتبعتا أسلوب حرب العصابات ضد السلطة القائمة، مع تباين الأهداف والمرجعية الفكرية لكلتا المنظمتين.

فمنظمة فارك تصنّف نفسها باعتبارها مجموعة ماركسية لينينية تقاتل لتحقيق مصالح فقراء الفلاحين، في حين يتبنى «جيش التحرير الوطني» أيديولوجيا مختلطة من الماركسية ولاهوت التحرير. وإذا كانت المنظمتان تلتقيان على انتهاجهما العمل العسكري، إلا أن جيش التحرير الوطني أقل شهرة من «فارك»، وأضعف تنظيماً، وأقل تورّطاً في ما نسب للمنظمتين من تجارة في المخدرات، رغم أن التأكد من هذه الاتهامات أمر صعب.

مسار الانفراج

في العام 2002 بدأ الصراع في كولومبيا يشهد انفراجاً نسبياً، إذ إنه بعد تفكيك الميليشيات العسكرية اليمينية، انضم الكثير من أعضاء تلك الميليشيات إلى العصابات الإجرامية المنظمة لأنهم، وفق بعض التقارير ومنها تقرير لوكالة سبوتنيك الروسية، وجدوا أنفسهم، بعد أن استسلموا وألقوا السلاح، من دون عمل أو أي شكل من أشكال الرعاية التي تتيح إعادة اندماجهم في المجتمع.

منذ العام 2013 تحتضن العاصمة الكوبية هافانا، برعاية الرئيس راؤول كاسترو شخصياً، مفاوضات جادة بين الحكومة الكولومبية والقوات المسلحة الثورية «فارك»، لكن بعدما سبق ذلك استعداد من الطرفين للبحث عن حل سلمي عبر التفاوض الذي دام ثلاث سنوات إلى أن خرجت من قمقم القلق والترقب الأخبار الطيبة للكولومبيين عن اتفاق شامل يفضي لوقف القتال وإعادة تشكيل النظام السياسي.

اتفاق تاريخي

أهمية الاتفاق وتاريخيته لا تكمن في طول مداه الزمني فحسب، بل لفداحة الخسائر البشرية والاقتصادية، حيث سقط خلال سنوات الحرب عشرات آلاف الضحايا، وتعرض مئات الآلاف من الفلاحين وصغار السن لعمليات تجنيد وضعت مستقبلهم في اتجاه آخر، وسجلت آلاف عمليات إخفاء قسري وتعذيب واغتصاب، وشرّد الملايين من المدنيين.

وإذا شئنا التحديد نلجأ للتقديرات الرسمية التي تؤكد مقتل أكثر من نصف مليون إنسان، واختفاء حوالي 45 ألف شخص لا يعرف مصيرهم حتى الآن، وما يقارب 7 ملايين مهجّر معظمهم من الفلاحين الفقراء.

من خلال مراقبة المسار، يتضح أن المفاوضات بين الجانبين لم تكن سهلة، لكنها كانت بالتأكيد أقل صعوبة مما يمكن أن يفرزه صراع تجاوز نصف قرن من الزمن وصنع جداراً عالياً من الجثث وفصل بين المتحاربين بنهر عريض من الدماء.

لكن الجدية في التفاوض الذي بدأ عملياً سنة 2012 ظهر جلياً من خلال المستوى العالي في تمثيل الجانبين، حيث ضم الوفد الحكومي وزيرة الخارجية ماريا أنخيلا هولغوين، فيما ضم وفد منظمة فارك القيادي رفيع المستوى إيفان ماركيز.

وكأي مفاوضات تحظى بحرص متبادل على إنجاحها، يتطلب الأمر أن يقدم الطرفان تنازلات متبادلة من أجل تذليل العقبتين الرئيسيتين اللتين كانتا تعرقلان التوقيع على اتفاق سلام، وتتمثلان في آلية التوقيع على الاتفاق وضمانات وآليات تنفيذه.

ولا شك في أن ثمة دوراً كبيراً تضطلع به كوبا وبلدان أميركا اللاتينية والأمم المتحدة، وبلدان أخرى، لدعم هذا المسار وتوفير الضمانات لتنفيذ الاتفاق، والمساعدة على تذليل أية عقبات قد تظهر في سياق العملية التي لن تكون أمامها الطريق مفروشة بالورود.

وبكثير من الواقعية يمكن القول إن الاتفاق ربما لم يلغ كل الخلافات وعوامل الصراع، فهناك معاناة كبيرة يعانيها فقراء الفلاحين، وثمة نفوذ وسطوة لعصابات الجريمة المنظمة، وتأثير كبير لها في الحياة السياسية، ومعالجة ذلك يتطلب دولة قوية ومجتمعاً موحداً.

 لكن مواجهة التحديات ستكون أفضل حال حين يتولاها الجميع من أن يتولاها طرف واحد، فيما يقف الطرف الآخر في المعسكر المضاد أو يكون جزءاً من التحديات نفسها.

Email