إعلان حرب مقايضة بين «العمال الكردستاني» و«داعش» يخضع لحسابات انتخابية

حزب العدالة التركي يغامر بالاستقرار مقابل السلطة

■ أعمال تخريب بضاحية غيزي في اسطنبول عقب تفجّر قلاقل كردية إثر مقتل أحد المتظاهرين | رويترز

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتصاعد النبرة القومية الحادة لدى حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا مع تعثر مفاوضات تشكيل حكومة ائتلافية مع أحد الأحزاب الثلاثة في البرلمان.

ورغم محاولة هذه الحكومة تقديم قرارها بالمشاركة في الحرب على تنظيم داعش في إطار التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، إلا أن الجبهة الأخرى للحرب التي أعلنتها أنقرة على معاقل حزب العمال الكردستاني في جبل قنديل بكردستان العراق تأتي في إطار مناقض لأجندة التحالف في معادلة مقايضة تفرغ الاتفاق بين الطرفين من مضمونه، وسيضع التحالف الدولي في موقف حرج إذا طال أمد هذا التفاهم وفق الصيغة الحالية التي تقود في نهاية الأمر إلى كشف السبل الملتوية التي يتبعها حزب العدالة والتنمية لتحقيق مصالح حزبية حتى لو كانت على حساب استقرار تركيا الهش.

«القاعدة» تملأ الفراغ

وفق رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) صالح مسلم فإن تنظيم داعش في المناطق المحاذية لسيطرة القوات الكردية هو أداة تدمير تركية ضد الأكراد. والاتهام لا تنقصه الأدلة، فهناك تصريحات تكررت مرتين لرئيس الحكومة أحمد داود أوغلو وصف فيه تنظيم داعش بأنهم شبان غاضبون نتيجة وحشية النظام السوري، في تبرير يريد من خلاله الإيحاء أن المنضمين إلى التنظيم تقودهم عوامل نفسية مؤقتة أو مجرد شباب طائش!.

ولا يمكن أخذ الحرب التركية المعلنة على داعش بجدّية في المفهوم العسكري، لأنها حرب حدودية محددة في شريط لا يتجاوز 90 كيلومتراً شمال محافظة حلب، ولا توجد أي معطيات أن المشاركة التركية ستتعدى تلك المنطقة.

ويتم التسويق داخلياً بأن هذا التدخل التركي يأتي لمنع تقدم الفصائل الكردية من عين العرب (كوباني) باتجاه الغرب، حيث يحول التدخل التركي دون إمكانية وقوع تلك المنطقة في أيدي المقاتلين الأكراد.

كما أن تبعات هذا التدخل الجزئي في الـ90 كيلومتراً ستنعكس سلباً على أهداف التحالف الدولي، فالفصائل التي ستسد الفراغ الذي قد ينتج من خروج داعش من جرابلس وأطراف بلدة مارع مكونة من تحالفات ميدانية تقودها جبهة النصرة، فرع تنظيم القاعدة في سوريا، وفصائل لا تقل عنها تطرفاً. كما لا توجد قوة مدربة من الجيش الحر لتتسلم زمام الأمور، وفي حال حدث ذلك، فإن المرتبطين بالجيش الحر سيتحولون إلى أهداف لجبهة النصرة وحلفائها في مناطق مثل ادلب على غرار ما حدث مع جبهة ثوار سوريا وحركة حزم.

مشاركة صفرية

في مقابل التدخل ضد «داعش»، تشن مقاتلات الجيش التركي غارات جوية على معاقل حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان. وتبدو هذه الضربات بديلاً للتدخل التركي في المناطق الكردية السورية التي يحكمها مقاتلون مؤيدون لحزب العمال نفسه ويعتبرون الطرف الذي يحظى بالثقة الأكبر لدى التحالف الدولي في الحرب ضد داعش. وتظهر المعادلة التركية هنا بصيغة تجعل مشاركتها صفرية، إذ تقوم بحرب ترضية للتحالف عبر ضرب الأداة التدميرية الموجهة ضد الأكراد (أي داعش) مقابل ضرب الأداة التدميرية المعتمدة من قبل التحالف ضد داعش (المقاتلون الأكراد).

حسابات انتخابية

في المعادلة التركية الداخلية، ثمّة قراءة أخرى تجعل من كل ما سبق وسيلة لاستحقاق داخلي، فالضغط الغربي على أنقرة ليس جديداً لدفعها إلى إغلاق الأبواب المفتوحة أمام داعش. تبقى الاستجابة في التوقيت الذي اختاره حزب العدالة والتنمية بحاجة إلى ربط بالملف الداخلي الأبرز: تشكيل الحكومة. أخفق حزب العدالة في التوصل إلى اتفاق مع أي من الأحزاب الثلاثة الأخرى الفائزة في الانتخابات: الشعب الجمهوري، والحركة القومية، والشعوب الديمقراطي لتشكيل حكومة ائتلافية، ويتم التحضير منذ الآن لانتخابات مبكرة قد تجري بعد أربعة أشهر كحد أقصى، وبموجبه يتحدد مصير حزب العدالة والتنمية في مستقبل تركيا.

قد لا يولي غالبية المتابعين بالاً للخطر الجسيم الذي ينتظر الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومة العدالة والتنمية في حال خرج من السلطة أو شارك في حكومة ائتلافية لا يملك قرارها بمفرده، فهناك ملفات خطيرة كفيلة باقتياد معظم قيادات الصف الأول للحزب إلى المحاكمة، سواء في قضايا الفساد المغلقة أو القضية الأخطر المتمثلة في تهريب شحنات أسلحة بإشراف الاستخبارات التركية إلى فصائل مقاتلة في سوريا.

وتأتي الانتخابات المبكرة حبل نجاة أخيرا لحزب العدالة للنجاة بنفسه، وهذا يتطلب أن يحقق نتيجة تجعله قادراً على تشكيل حكومة بمفرده لتشتيت الملفات التي يستعد خصومه لفتحها قضائياً. في الوضع الذي سبق إعلان الحرب على العمال الكردستاني وداعش، كانت التقديرات الصحافية تشير إلى بقاء الترتيب كما هو عليه، وفي أحسن الأحوال سيكسب حزب العدالة نقطة مئوية واحد فقط لن تفيده في تشكيل حكومة بمفرده.

الطريقة الوحيدة لتغيير ثبات الأصوات القيام بمغامرة فتح جبهتي حرب متزامنتين، وتحديداً العمال الكردستاني، في سبيل كسب أصوات جزء من الكتلة الانتخابية المرنة لحزب الحركة القومية المتطرف الذي يقوم عصب برنامجه السياسي على التعبئة ضد الحركة القومية الكردية. في الوقت ذاته، فإن إشعال الحرب الكردية التركية مجدداً سيدفع بقيادة حزب الشعوب الديمقراطي إلى تبني خطاب قومي تنفر منه كتلة غير كردية صوّتت له، وتكون أصوات هذه الكتلة من نصيب حزب العدالة في الانتخابات البرلمانية المبكرة.

مخاطر العملية

من المستبعد أن يتمكن حزب العدالة والتنمية من الفوز بنتيجة تؤهله لتشكيل حكومة بمفرده في حال اللجوء إلى انتخابات مبكرة، وملفات الملاحقة القضائية ستبقى تلاحقه ولو بعد سنوات، كما أن رهانه على أصوات الكتلة المرنة لحزب الحركة القومية لن يشكل فرقاً حاسماً، والكتلة غير الكردية المصوّتة لحزب الشعوب الديمقراطي لا تشكل نسبة يمكن الاعتماد عليها، فضلاً عن أن من شبه المستحيل أن يتحول علويّو حزب الشعوب الديمقراطي إلى دعم حزب العدالة.

في العموم، تبدو مخاطر هذه العملية تدميرية بالنسبة لاستقرار تركيا، فالحرب المفتوحة مع الأكراد في حال حدثت لن تكون كسابقاتها.

حزب الشعوب الديمقراطي حصل على مليون صوت انتخابي في اسطنبول (12 في المئة) و273 ألف صوت في إزمير (أكثر من 10 في المئة)، وهي تزيد على ضعف الأصوات التي حصل عليها الحزب الكردي في انتخابات 2011. وباتت المظاهر الكردية في مدينة مثل اسطنبول تفرض نفسها على واقع الحياة اليومية، بما فيها الحركة التجارية للمدينة، وظهرت أحياء كردية كاملة مفاتيحها بأيدي حزبي الشعوب والعمال. وبالتالي، فإن الاضطرابات التي قد تنتج عن مثل هذه الحرب سيكون له أثر تدميري على استقرار تركيا، بما يحمله ذلك من تبعات اقتصادية وتقلص هامش الحريات السياسية.

حرب موازية

أمنياً، هناك مخاطر في ظهور حرب موازية للمواجهات المسلحة بين المقاتلين، وهي حرب الاغتيالات. ورغم ان داعش لم ترد على الحرب التركية غير الجدّية حتى الآن، إلا أن اشتدادها خلال الأيام المقبلة قد يدفع بالتنظيم إلى الرد داخل تركيا. وترجّح دوائر كردية مقربة من حزب العمال بأن يقتصر رد داعش على استهداف المناطق الكردية في تركيا، الأمر الذي سيدفع بالحزب الكردي إلى الظهور العلني لضبط الأمن، بما يعني تحول تركيا فعلياً إلى دولة مضطربة أمنياً وضياع 14 عاماً من جهود حزب العدالة والتنمية على أيدي الحزب نفسه.

مثل هذه البيئة سبق لتركيا أن جرّبتها بين انقلابي 1971 و1980، حيث خلّفت المواجهات ذات الطابع الفردي بين تياريْ اليمين واليسار نحو 10 آلاف قتيل، ولم تنته إلا بانقلاب عسكري.

المفجر الانتحاري في سروج

يتهم مسؤولون أكراد الحكومة التركية بالتواطؤ في تفجير سروج الذي أودى بحياة 32 شخصاً من الطلاب المتضامنين مع مدينة عين العرب، فالشخص الذي قالت السلطات إنه الانتحاري الذي فجّر نفسه ينحدر من ولاية أديامان، ويدعى شيخ عبدالرحمن ألاغوز. وتبين أن الشاب البالغ من العمر 20 عاماً خرج من تركيا في 2013 لينضم إلى «داعش»، وعاد بعد ستة شهور ليفتتح مقهى في مدينته بات مقراً لتجمع المتطرفين، ومقراً لأداء صلاة الجمعة أسبوعياً إذ يرفضون الذهاب إلى الجامع.

أبلغت عائلته الشرطة بفقدان الولدين بتاريخ 22 نوفمبر 2014. ظهر شيخ عبدالرحمن قبل 10 أيام من تفجير سروج، وانتقل من مدينته بحافلة عامة ليتوجه بعدها إلى مكان الاجتماع وتفجير نفسه.

احتواء أنقرة لـ «داعش» .. قرار استراتيجي معقّد

 

تتمثل أفضل طريقة لتتبع الأخبار في الشرق الأوسط في طرح هذا السؤال عن الأحداث الكبرى: هل يجري كبح العنف باسم الدين؟ قد يكون الجواب نعم، بالنسبة إلى اتفاق 14 يوليو الرامي لإنهاء تهديد البرنامج النووي الإيراني. وقد وقع الآن حدث آخر، ممثلاً بانضمام تركيا للحرب لدحر تنظيم داعش. إذ ضربت الطائرات العسكرية التركية، أخيراً أهدافاً للتنظيم داخل سوريا.

في حال تم تنفيذ هجمات تركيا بصورة جيدة، وبدوافع صحيحة، فإنها قد تضيف زخماً أكبر لاتفاق إيران النووي، وذلك بالحد من العنف الذي ترتكبه الجهات الفاعلة في الشرق الاوسط، في محاولة لدفع قضية دينية راديكالية. وبصفتها دولة قوية غير عربية، لدى تركيا القدرة لتكون صانعة سلام.

غير أن قرار تركيا الاستراتيجي بملاحقة مقاتلي «داعش» يعتبر معقداً بسبب سياستها غير المستقرة، وصراعها طويل الأمد مع الانفصاليين العنيفين الذين يحاولون إقامة وطن قومي للأقلية الكردية. وحقيقة أن قرارها ضرب حزب العمال الكردستاني، أيضا، في شمال العراق يعمل فحسب على تعقيد دعم الغرب لدورها الجديد في احتواء الانتشار الوحشي لتنظيم «داعش».

في منطقة تعاني من انقسامات حادة على أسس دينية وعرقية، يمكن لتركيا أن تكون عامل استقرار أفضل، مقارنةً بقوة خارجية، كأميركا. فهي دولة ديمقراطية، شعبها من السنة إلى حد كبير، مثلَ معظم دول الشرق الأوسط، وتسعى بشكل عام للتأثير من خلال الوسائل السلمية.

وقد تم دفع جزء من ترددها لدخول حرب سوريا، عبر الهيمنة التركية السابقة على المنطقة تحت مظلة الامبراطورية العثمانية. ولكن مع بدء دخولها للغرب، باعتبارها دولة حليفة لحلف شمال الأطلسي، (الناتو)، وذلك منذ فترة طويلة ضد الشيوعية، فإن لديها القدرة الاستراتيجية لاحتواء انتشار الإرهاب المتشدد ،الذي يتم ارتكابه إما عبر دولة أو جماعة مسلحة.

ويتوقف الكثير على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

فبصورة أساسية، خسر حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي ينتمي له، الانتخابات البرلمانية في شهر يونيو الماضي. وقد يسعى لإعادة تأسيس شرعيته من خلال الانضمام للحرب في سوريا، ومهاجمة حزب العمال الكردستاني.

ويعد خصمه السياسي الرئيسي حزبا بأساس كردي، ويلقى تأييداً متزايداً بين الناخبين في المناطق الحضرية. كما قد يكون رجب طيب أردوغان قلقا من زيادة نفوذ إيران في حال وضعَ الاتفاق النووي نهايةً للعقوبات على طهران.

غالبا ما يظهر الشرق الأوسط فوضوياً ، وفاقداً للأمل. غير أن أهم ما في الأمر هو عندما يسود فهم السلام. ومع وجود اتفاق إيران النووي، وحالياً قرار تركيا احتواء تنظيم داعش، يمكن لمثل ذلك السلام أن يكون أقرب منالا قليلاً.

 

عن صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» الأميركية

Email