حصار لـ 10 أيام وقتل استمر 8 ساعات بحصيلة 50 ألف ضحية 2-4

مورامبي.. المدرسة الرواندية التي أضحت مقبرة

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك في قرية رواندية وادعة تدعى مورامبي تنام أكثر كوابيس البشرية سواداً. فيها تصمت ملاحم هوميروس ويدرك المرء للمرة الأولى معاني كان يسمعها أو يقرأها من قبيل «رائحة الموت» و«تعجز الكلمات عن وصف».

لا تبعد القرية عن العاصمة كيغالي سوى 156 كيلومتراً. الطريق إليها مفروش بالأشجار الخضراء الباسقة وزهور الأقحوان الأصفر والتلال الجميلة.. وأيضاً بالنوايا الشريرة. يسير سكان القرى المجاورة على جانبي الطريق المعبد يحملون حاجياتهم على رؤوسهم بتوازنٍ فريد وأطفالهم خلف ظهورهم، كما الطريقة الإفريقية التقليدية.

 تطلب الأمر زيارة مورامبي لاكتشاف نوع من النبات يسميه العرب «عاقر قرحا» له فوائد طبية وزراعية جمة وتستغله الحكومة في برامج متخصصة لذلك. لكن كل تلك المناظر الجميلة تختفي حينما تبدأ بالدخول إلى القرية. على مدخلها، وضع أفراد ميليشيا «الإنترهاموي» حواجزهم في أبريل 1994 لمراقبة من يدخل ويخرج. وليس ببعيد، يمكن رؤية مدرسة مورامبي التقنية..

لكن كان للمتطرفين رأي آخر في رسم مستقبلها. يصافحك المرشد غاسبر على أبوابها ويقودك في رحلة إلى عالمٍ آخر عصي على الفهم. «خدعت الحكومة والقساوسة أولئك التوتسي الخائفين على حياتهم في القرى المحيطة وطلبت منهم أن يختبئوا في المدرسة قيد البناء التي كانت ستفتتح في سبتمبر من دون أن يدري هؤلاء النازحون أنهم يسيرون نحو حتفهم». هكذا يستهل غاسبر الرواية المثيرة للقشعريرة.

حينما دارت عجلة المجازر، لم يجد التوتسي أمكنة أكثر أماناً أفضل من الكنائس. اعتقدوا أن بيوت الله ستحميهم من شياطين الهوتو، فكانوا مخطئين. توهموا أن من ينصب نفسه ممثلاً لله على الأرض لا يمكن أن يقودهم إلى الجحيم. ما حدث في مورامبي كان حصيلة تواطؤ مفضوح بين الدولة والكنيسة اللتين عقدتا النية المبيتة، بمساعدة الميليشيات، على إبادة أكبر قدر ممكن من مواطنيهما. لجأ التوتسي من قرى موداسوموا .

وكاراما وكينيامادارا في بداية الأمر إلى الكنيسة والمستشفيات، لكن السلطتين التنفيذية والدينية دعتهم إلى الاحتماء بالمدرسة لأنها المكان الأكثر أماناً، مخططةً لتجميعهم بأكملهم في مكان واحد لكي تسهل المهمة. ولعبت الجغرافيا دوراً سلبياً.. فالتلال المجاورة صعّبت مهمة الهرب وسهلت على المجرمين اصطياد الفارين. لقد كان موقعاً استراتيجياً فريداً للقتل ومعداً له بعناية.

تفاصيل المجزرة

منذ 11 أبريل، بدأت المناوشات بين نحو 65 ألفاً من اللاجئين في أبنية المدرسة، المسلحين بحجارة وعصي خشبية اقتطعوها من المرافق، والمهاجمين المتحدرين من المنطقة نفسها والذين تنوعت خلفياتهم ما بين الشرطة والسكان المحليين و«الإنترهاموي». في 18 أبريل فشل الهجوم الأولي، فطلب المخططون الدعم من قوات إضافية ومجهزة بأسلحة أكثر وجندوا عناصر من مناطق أخرى أُحضرت بالحافلات. وفي 19 منه، خطب الرئيس المؤقت تيودور سينديكوبوابو في الإذاعة داعياً الهوتو إلى «العمل»، وهو مصطلح مبطن حينها يشير إلى قتل التوتسي.

وفي الساعة الثالثة صباح 21 أبريل، انطلق القتلة في مهمتهم وباشروا هجومهم بمختلف صنوف الأسلحة بعدما قطعوا الماء والكهرباء لعدة أيام عن المدرسة وحاصروا الموجودين في الداخل المنهكين من التعب والجوع. دافع المدنيون عن أنفسهم بما وقعت عليه أيديهم، لكن شجاعتهم لم تغلب كثرة القتلة.

وتوقف القتل في السادسة صباحاً. ليس لأن المهاجمين ملوه، بل لأنهم تعبوا ونفدت ذخيرتهم وتكسرت أنصالهم فوق رقاب الضحايا. وبعد 20 دقيقة، استأنف المعتدون الموجة الثانية من الهجوم الذي تواصل بوتيرة أكبر حتى الحادية عشرة صباحاً. ثماني ساعات ذبحاً ورشاً وضرباً انتهت بمقتل 50 ألف مدني. زار محافظ مدينة جيكونغورو لوران بوسيباروتا المنفذين وهنأهم على «العمل الجيد الذي قاموا به».

قد لا يتذكر الكثيرون أين كان صباح 21 أبريل 1994. لكن المؤكد أن أقارب ضحايا فاجعة مورامبي لن ينسوا على الإطلاق أين كان أحبتهم وكيف لقوا حتفهم.

وإن بدأت المجزرة في 21 أبريل، إلا أنها استمرت عدة أيام مستهدفة الذين فروا إلى المناطق القريبة ومنها تشيانيكا التي فشلت كنيستها كذلك في احتضان الهاربين الذين عثر عليهم فيها بعد ساعات ولاقوا مصير نظرائهم في المدرسة. ومع ذلك، نجا البعض عبر مفارقة غريبة تمثلت في أن طوق النجاة الوحيد لبقائهم أحياء هو الاختباء بين الجثث.

غرف الموت

الزائر معتقل أوشفيتز النازي في بولندا سيعتقد بما لا يدع مجال للشك أنه لن يرى في حياته أسوء من هذا المكان الذي يُعرف بأنه البقعة التي شهدت قتل أكبر عدد من البشر في التاريخ. لكن المخيم، الذي تحول متحفاً اليوم، مرتب بشكلٍ يبقي على الشعور بفداحة الجريمة لكنه يمتص الصدمة. أما في مركز مورامبي للإبادة الجماعية، تركت آثار الجريمة كما هي بطريقةٍ بائسة.

في غرف المدرسة، التي أريد لها عبثاً أن تصبح صفوفاً ومطابخ ومختبرات، تصطف عشوائياً على طاولات خشبية قديمة عشرات الجثث المحنطة لبعض ضحايا المجزرة بتعابير وجوههم وحركات أجسادهم في لحظاتهم الأخيرة. امرأة اغتصبت قبل أن تقتل ترفع يدها اليسرى وكأنها تترجى جلادها، ومسن شق رأسه أشاح بوجهه إلى اليمين وكأنه يرى الموت قادماً. لا أحد يزور الضحايا إلا بعض الذباب وباقة ورد صغيرة وضعت بين الجثث التي لا يغطيها شيء.

الأجساد مضغوطة وكأنها مرت في مطحنة أو مكبس. يأتيك الجواب من المرشد قبل أن تسأل: «رقة سماكة الأجساد تعود إلى الكم الهائل من الجثث التي رميت فوقها حينما دفنت في المقبرة الجماعية». ورائحة الكلس المستخدم في التحنيط تملأ المكان، متماهيةً مع رائحة الموت، من دون أن تفلح الستائر المهترئة التي تغطي نوافذ بلا زجاج في تمرير هواءٍ يعيدك إلى الحياة.

أكثر ما يلفت النظر هو الرجل الذي مات حياً. ذاك المجهول بلا اسم الذي توفي وهو يصرخ كما ولد. له حكاية تشي بأنه مات مرتين. قسمات وجهه تكشف إنه كان يصرخ مستخدماً يديه في إبعاد الجثث التي كانت ترمى فوقه في المقبرة الجماعية.. لقد دفن حياً ومات كذلك.

لم أتمكن من مقاومة الرغبة في تصويره. عدت أدراجي وحيداً إلى الغرفة واقتربت منه لالتقط صورة تلخص مأساة رواندا.. أن تصرخ طالباً النجدة أو الرحمة فلا تأتيك. في غرفة كبيرة منفصلة، وضعت ثياب الضحايا الرثة على الرفوف وكأنها تنتظر من يغسلها ليرتديها مجدداً، ولسان حالها يكاد يروي فظاعة ما حدث.

تغادر مورامبي مكتفياً بخط بضع كلمات في كتاب التعازي: «من الصعب أن تسامح أو تنسى».

شعور

 ا يعلم أحد كيف كان شعور أولئك الذين تخفوا بجانب المقتولين، وهمهم في لحظتها التظاهر بالموت لكي يروا ضوء نهار اليوم التالي. اختلاط دماء القتلى والجرحى بلباس الناجين، عاد بالنفع عليهم، حيث لم يهم القتلة دم من هذا أو ذاك.

هنا لعب الجنود الفرنسيون الكرة الطائرة

 يلوم الروانديون بشدة فرنسا على دورها إبان نكبتهم. يقول كثيرون إن المتطرفين الهوتو الناقمين على اتفاق أروشا لتقاسم السلطة مع الجبهة الوطنية الرواندية أخذوا الضوء الأخضر لإسقاط المعاهدة من باريس التي راودها شعور بأن الاتفاق يعد هزيمة لنفوذها في منطقة البحيرات العظمى. وما زال الجدل قائماً حتى يومنا هذا بشأن الدوافع الحقيقية لعملية «تركواز»، التي قال الفرنسيون إنها «إنسانية»...

ومدى دورها في مساعدة المتورطين في المجازر على الهرب. انتظرت فرنسا حتى 22 يونيو لاستصدار قرار من مجلس الأمن ينتدبها لمدة شهرين لإرسال 2550 من قواتها، فضلاً عن 500 جندي من بعض الدول الإفريقية، لإنشاء منطقة عازلة لحماية المدنيين.. أو هكذا قيل.

سيطرت فرنسا على مثلث حدودي يضم مدن كيبوي وسيانغوغو وجيكونغورو، بينما كانت الجبهة الوطنية المتمردة تتحكم في معظم أراضي البلاد مع اقتراب دخولها العاصمة. استمر القتل في مناطق تواجد الفرنسيين الذين تذرعوا بأن القرار الأممي لا يخولهم اعتقال مرتكبي الإبادة الجماعية الذين احتموا في مناطق عملية «تركواز»، وبأن المهمة لا تتضمن صلاحية التدخل العسكري لوقفها. ما لم يكن سهلاً هضمه على كل حال هو سماح الفرنسيين لإذاعة «آر تي إل إم» بنقل بثها إلى القرى الخاضعة إليهم واستمرار تحريضها على التوتسي تحت أنظارهم.

كما قوضت عملية «تركواز» مهمة قوات الأمم المتحدة ضئيلة الحجم التي لم تتجاوز 270 عنصراً، والمسماة «يونامير»، بعدما سحبت المنظمة الدولية معظم جنودها لدى بدء المجازر إثر قتل الميليشيات جنوداً بلجيكيين ضمن «يونامير». لكن ثالثة الأثافي الفرنسية وقعت في مدرسة مورامبي التقنية. جاءت القوات الفرنسية إلى المكان الذي تحول إلى مقبرة جماعية واكتشفت آلاف الجثث المدفونة، فما كان منها إلا أن أعدت العدة..

للعب الكرة الطائرة!. بدلاً من التحرك العاجل لإماطة اللثام عن واحدة من أبشع المذابح، أخفى الفرنسيون آثار الجريمة وأقاموا ملعباً للكرة الطائرة فوق الجثث المدفونة تحت الأرض ورسموا حدوده ونصبوا شبكته مستخدمين معدات حفر وكأن شيئاً لم يكن. لافتة صدئة غرست في الأرض كتب عليها بالانجليزية والفرنسية والكينيارواندية:

 «جنود فرنسيون كانوا يلعبون الكرة الطائرة هنا». سألت المرشد غاسبر فيما إذا كان هناك فرنسيون يزورون مركز الإبادة الجماعية في مورامبي وعن ماهية موقفهم من الاتهامات الموجهة إلى بلادهم، فأجاب: «يكررون نفس اللازمة.. بأن حكومتهم لم تبلغهم بما كان يحدث ولم يعرفوا ما حصل». هكذا يفضل البعض غسل ذنوبه بكل بساطة.

Email