الموصل النوم بين الجثث والركام

ت + ت - الحجم الطبيعي

 لمشاهدة ملف "الموصل" بصيغة الــ pdf اضغط هنا

 

بعد مرور زهاء سبعة أشهر على الإعلان عن استعادة مدينة الموصل بالكامل، من قبضة تنظيم داعش الإرهابي، في 10 يوليو من العام الماضي، لا يزال سكان المدينة، وبالأخص في جانبها الأيمن، يعانون من عدم استطاعتهم العودة إلى «حديقة الموت»، كما يطلق السكان على المدينة القديمة، التي لم يعد إليها حتى الآن سوى خمسة آلاف شخص، من أصل 200 ألف كانوا يسكنونها، قبل الحرب الأخيرة، فيما أصبحت لديهم كلمتا «التحرير الكامل» مرادفة لـ «التدمير الشامل»، من خلال قصف منطقة عتيقة البنيان ومزدحمة بالسكان، بالأسلحة الثقيلة وصواريخ الطائرات، إضافة إلى تفجير السيارات المفخخة والعبوات البشرية الناسفة، وغيرها من الأسلحة الفتاكة.

تقول السيدة أم صباح، إن الذين عادوا إلى مساكنهم المدمرة في المدينة القديمة، أكثر بكثير من الأرقام المذكورة، لكن أغلبهم فضلوا العودة إلى مخيّمات النزوح أو السكن عند أقارب لهم في المناطق القريبة، وتبرّر ذلك بأن «الحياة مع الموت أمر مرعب»، حيث تفوح رائحة الجثث المتفسّخة في كل مكان، وتنتشر بعض الأشلاء حتى على أسرّة النوم المهشّمة.

تضيف أم صباح لـ «البيان»: «أمضيت مع ابنتي وأخويها ليلة واحدة في بقايا بيتنا الموحش، وكانت ليلة مخيفة، تشبه أفلام الرعب.. كان يخيّل إلينا أننا نسمع أصواتاً وصراخاً وضوضاء، لا نعرف من أين تأتي.. وفي صبيحة اليوم التالي عثر ابني الصغير على عظام في إحدى الحجرات، لا نعرف هل هي من بقايا طعام، أم عظام بشرية.. تملّكنا الخوف، فالزّقاق الذي كنا نسكنه، تعرض بعد مغادرتنا إلى بيت أختي في إحدى القرى القريبة، إلى قصف عنيف، ومعارك شرسة، كما انفجرت سيارة مفخخة عند طرف الزقاق.. وإلى جانب الخوف، أصبح البيت المهدم غير صالح للسكن والمعيشة، لذلك قررنا العودة إلى بيت أختي، ولا نعرف متى تقوم الجهات المعنية برفع بقايا الجثث، والمباشرة بإعادة الإعمار، أو تعويض المتضررين، ومساعدتهم في ترميم بيوتهم».

دوافع طائفية وتجارية

في منطقة غرب الموصل، حيث استأجر الدكتور محمد عارف السبعاوي، مسكناً وعيادة طبية، يقول: «ذهبت لأرى بقايا بيتي في الجانب الأيمن، فوجدت أكثر من نصفه قد تهدم، وتساءلت مع نفسي: ماذا لو كنت بقيت مع عائلتي في البيت، كما طلبت بلاغات الحكومة؟. كانت العملية أشبه بحرق غابة لإخراج ذئب منها.. أعتقد أن عملية التدمير كانت مقصودة، لأسباب طائفية أو تجارية، في صالح العقاريين، فهذه المدينة هي قلب الموصل النابض، وبالأخص الأماكن القريبة من نهر دجلة أو المطلة عليه، وبرغم قدمها أصبح سعر المتر المربع فيها أغلى من مثيله في شارع الرشيد بقلب بغداد، والآن.. بعد سبعة أشهر من (التحرير)، لا يوجد بيع أو شراء، ولا توجد إمكانية للترميم وإعادة البناء، وبلا شك سيستفيد المستثمرون والعقاريون من هذا الوضع البالي».

ويشير صاحب محل بقالة في الجانب الأيمن من الموصل، إلى أنه رفض مغادرة بيته فقد «أصبح الموت والحياة سواسية».

ويضيف أحمد الموصلي: «ثقب عناصر داعش جدار بيتي، ودخلوا إليه من البيت المجاور، في وقت كان القصف يشتد على المنطقة، فيما دخل الجنود من الباب الرئيسي، واحتجزوني مع زوجتي وأطفالي في إحدى الحجرات الجانبية.. كان القتال من غرفة لغرفة، ولا نعرف من الفائز، غير أننا بعد أن توقف إطلاق النار، وجدنا أثاث البيت قد دمّر، وبقيت خمس جثث في المنزل، منها اثنتان لعسكريين، جاءت القوات لنقلهما، وبقيت الثلاث الأخرى، قمنا بسحبها خارج البيت، ولا نعرف كيف اختفت لاحقاً».

ويتابع الموصلي: «قررنا ألا نغادر.. الموت والحياة لا معنى لهما، والآن أعدت ترميم البيت ومحل البقالة جزئياً، لأواصل عملي الشاق، بجلب المواد الغذائية من الجانب الأيسر، وبيعها بأسعار رخيصة للعائدين الذين يصعب عليهم الحصول على الرزق». ويضيف: «لقد اعتدنا على (الجثث) كأمر طبيعي، وكجزء من الحياة والعيش هنا».

تدمير مدروس

وبحسب متابعين عسكريين وسياسيين، فإن «حرب الإبادة» كان بالإمكان تجنّبها، من خلال فتح ممرات محدودة لعناصر داعش، للانسحاب، والخروج من المدينة، بأقل قدر من الخسائر، وكان هذا مقترح قوات التحالف الدولي، رفضته ميليشيات «الحشد الشعبي»، وقيادات عسكرية مقربة منها، وأصرت على أن الهدف ليس «تحرير المدن»، كما هو مخطط له، وإنما القضاء التام على «داعش»، وعلى بيئته أيضاً، بغض النظر الخسائر بين المدنيين، وفي البنى التحتية هي الأكبر.

يقول العميد المتقاعد في الجيش العراقي، عبد الكريم الصعب، إن معركة الـ 100 يوم في الجانب الأيسر من الموصل كانت «نظيفة إلى حد ما»، حيث كان بإمكان المواطنين النزوح إلى الجانب الأيمن، وإلى محيط أربيل، إضافة إلى أن الجانب الأيسر يسود فيه طابع البناء الحديث، وفيه خليط عرقي وطائفي ومذهبي، فيما الجانب الأيمن يقتصر سكانه على لون مذهبي واحد، الذين هم، في نظر متطرفي الحشد والمؤيدين لهم من العسكريين، كلهم من «داعش» أو المؤيدين له، ما رجّح كفة المؤيدين إلى «الحصار والقتال»، حتى وإن شمل المدنيين.

يضيف الصعب، إن هذه الحالة جعلت عناصر التنظيم يقاتلون حتى الموت، فيما وقع المدنيون بين فكّي الكمّاشة، وكانوا الضحايا الأكثر عدداً، وتمت تسوية بيوتهم وممتلكاتهم بالأرض أو تحتها.

ويشرح الجنرال الصعب الحالة قائلاً: «تم اللجوء إلى خدعة الأسلحة الذكية، إعلامياً، فيما يعلم أبسط عسكري، أن حرب الشوارع ليس فيها أسلحة ذكية أو غبية، لاسيما إذا كان الموقع المستهدف عتيقاً ومتهالكاً وفيه أزقة ضيقة جداً لا تسمح بمرور العجلات، فتأتي النتائج كارثية، وقد تكررت هذه الحالة عشرات المرات في المدينة القديمة.

قنّاص «داعش»

ويؤيد الأستاذ الجامعي أبو صبري، ما ذهب إليه الصعب قائلاً، إن انفجار قذيفة مدفعية، أو سيارة مفخخة، في مدخل زقاق أو على أحد البيوت، يمكن أن يهدم جميع المساكن والمحال في ذلك الزقاق، وهذا ما حدث بالفعل، عندما كان أحد قناصي داعش يطلق الرصاص من سطح أحد البيوت، وفتحت «الأسلحة الذكية» نيرانها نحو الموقع، فكانت النتيجة تهديم ستة بيوت على من فيها، وتضرر بقية بيوت الزقاق، ولم يُعرف إن كان القناص قد أفلت أو قتل.

معركة الموصل دامت زهاء 9 أشهر، من 17 أكتوبر2016، إلى 10 يوليو 2017، منها أقل من 6 أشهر، في الساحل الأيمن، فماذا كانت النتيجة؟ ومن الخاسر الأكبر؟ هذا ما تكشفه النتائج، بعد 7 أشهر من إعلان التحرير.

يقول صاحب بيت في الحي القديم، إنه ظل أسابيع يطلب من الدفاع المدني المجيء ورفع جثتين من حجرة النوم الرئيسية في بيته بالطابق السفلي، وقد تحللت الجثتان، لكن من الواضح من الملابس أنهما لامرأة وطفل.

ويصف الإعلامي والكاتب عمر سلمان أيسر الموصل خلال معارك الأيام الأخيرة قائلاً: «لم يَعُدْ الموت مرعباً، فالحياة فيها أضحت أكثر رعباً، الدقيقة هناك بيوم، واليوم بسنة، حقّاً ما يجري فيها هولٌ من أهوال يوم القيامة، فما أصعب أن ترى الموت مرسوماً في عيون أطفالك، ولا تستطيع فعل شيء، فإن خرجت من المنزل تُقتل بالرصاص، وإن بقيتَ فيه يدفنك القصف تحت ركامه.. بات الأحياء يحسدون مَن مات منهم».

غدر في الوعود

ويضيف: «لقد غُدِرَ بالناس هناك غدراً، فالحكومة العراقية ألقت ملايين المنشورات عبر الطائرات تقول لسكّان الساحل الأيمن من المدينة: حفاظاً على سلامتكم، لا تخرجوا من بيوتكم، والتزم الكثير من الناس بما أُمروا به، وانتظروا دخول مَن يحررهم، وإذا بأطنانٍ من المتفجرات تنزل عليهم من السماء مدراراً، سوّت أحياءً كاملة بالأرض، ودُفن آلاف الأبرياء تحت أنقاضها، ولم يُرسلوا حتى آلياتٍ لانتشال الجثث».

ولكن المسؤولين في نينوى، إذ يقرون بأن الكثير من الجثث مازالت تحت الأنقاض، وفي العديد من الأزقة، إلا أنهم يواصلون جهودهم «بعد 7 أشهر من التحرير»، لمعالجة هذا الموضوع، فيما حذرت لجنة انتشال الجثث بمدينة الموصل من انتشار وباء الطاعون لوجود مئات الجثث تحت أنقاض المنازل المدمرة.

 

الحرب انتهت وبقيت الجثث

يؤكد سكان بمدينة الموصل أن جثث آلاف من المدنيين لم تنتشل بعد من تحت الأنقاض رغم مرور سبعة شهور على انتهاء الحرب. ويقول الدفاع المدني إنه جمع جثث 2585 مدنياً حتى منتصف يناير، وإنه لم يتم التعرف إلى الكثير منها، مشيراً إلى أنه سيكمل عملياته. ولا يريد الدفاع المدني إهدار موارده على جثث المتشدّدين.

رغم أن أبرز المشاكل في الموصل هي جثث المتشددين المتروكة في الشوارع، فإن السكان يقولون إنهم عثروا أيضاً على جثث لأفراد يشتبه في أنهم من أقارب أعضاء تنظيم داعش في بيوتهم. وتحدث سكان عن أنهم ظلوا أسابيع يطلبون من الجهات المختصة المجيء ورفع جثث متحللة من بيوت.

وحسب قناة «سكاي نيوز»، جمع فريق بلدية المدينة 348 جثة لمتشددين حتى الآن، لكن لا يزال عدد كبير منها موجوداً ويمر السكان بها في طريقهم لجلب المياه من المضخات المؤقتة في أحد الشوارع بينما يلعب أطفال صغار على مسافة غير بعيدة من جثث ملقاة في الشارع.

ومما يعرقل جهود فريق الانتشال التابع لمديرية البلدية قلة الأموال المخصّصة له. ففي بضعة أيام خلال يناير اضطر أفراد الفريق لوقف العمليات لنقص القفازات والأقنعة وأكياس الجثث.

بعض العائلات لجأت إلى الحفر بنفسها لاستخراج جثث ذويها، ولجأ آخرون إلى خيارات صعبة مثل حرق الجثث بعدما شاهدوا الذباب يحوم فوقها والرائحة تفوح منها ما ولّد خشية من تفشي الأمراض.

 

اقرأ أيضاً:

Email