قطر في أفريقيا.. استثمار في الفتنة والدمار

ت + ت - الحجم الطبيعي

ينظر أغلب المراقبين الأفارقة لشأن القارة السمراء، بكثير من التوجس والريبة للحضور القطري المكثف والمتنامي في المنطقة الأفريقية، حيث لا تكاد تخلو دولة أفريقية من تواجد قطري ظاهره الاستثمار، وباطنه زرع بذور الفوضى والفتنة وعدم الاستقرار، حسب المراقبين.

بدأت الحكاية قبل عقدين من الزمن، مع وصول الأمير السابق الشيخ حمد بن خليفة لسدة الحكم في قطر منقلباً على والده، حيث اشتهرت السياسة القطرية حينها بالرحلات الأميرية المكوكية، لمختلف أصقاع العالم خاصة المنطقة الأفريقية، تلك الزيارات التي كان يطلق عليها بعض الأفارقة "جولات الشنط"، إشارة إلى المليارات التي تضخها قطر في بعض النخب والجهات الحكومية والسياسية، في أي بلد أفريقي يزوره الأمير القطري، أو ساعده الأيمن وزير خارجيته السابق حمد بن جاسم.

وقد امتطت قطر صهوة المال السياسي والاستثمار الاقتصادي بأرقام فلكية تفتح الشهية الأفريقية للوصول لأهدافها المعلنة وغير المعلنة، مسنودة بالذراع الإعلامي الطويل، الذي تهش به على هذه الدولة أو تلك نبشاً في شؤونها الداخلية لتثير لها القلاقل والإشكاليات السياسية، إذا لم ترضخ للمطالب القطرية.

وقد بدأت الدوحة بسياسة لي الذراع في المنطقة الأفريقية المغاربية، من خلال بث قناة الجزيرة القطرية لعدد من التقارير المشوهة للوضع المغاربي، خاصة في المغرب وتونس والجزائر وأخيراً موريتانيا.

لكن قطر ظلت ترد على التحفظات الرسمية المغاربية على الدور المشبوه لقناة الجزيرة في زعزعة أمن واستقرار بلدانها بأنها لا يمكنها التدخل في خط القناة التحريري، لأن ذلك يتناقض مع احترام حرية الإعلام المعمول بها في الدوحة، ونتيجة لهذا الرد الاستفزازي توترت العلاقات القطرية المغربية في السنوات الماضية وتم إغلاق وطرد مكتب قناة الجزيرة، كما سحبت تونس في 26 أكتوبر 2006 بعثتها الدبلوماسية لسنتين من الدوحة، وحظرت الجزائر دخول قناة الجزيرة لأراضيها، وكانت آخر منازلة للجزيرة مع موريتانيا التي لم تجد بداً من التعامل الحازم مع السلطات القطرية التي رفضت لجم الجزيرة عن تشويه صورة النظام الموريتاني، فما كان من السلطات الأمنية الموريتانية سوى التلويح بفضح ملف أمني خطير جداً يتعلق بالتواجد القطري في ضيافة الجماعات المتطرفة في الشمال المالي مع كشف حساب بالسخاء القطري في ربوع القاعدة، الأمر الذي جعل المدير العام لشبكة الجزيرة يسارع للاعتذار لموريتانيا ملتزماً بعدم خوض القناة في أي ملف يزعج النظام الموريتاني.

أما ليبيا فقصة قطر ذات بعدين، ففي عهد المخلوع معمر القذافي سخرت الجزيرة لمواكبة نزواته وهفواته خاصة ما يتعلق منها بمهاجمة القادة العرب، أما مرحلة ما بعد القذافي فالجزيرة تحولت إلى ثكنة عسكرية ترمي بحممها الإعلامية على نظام القذافي ومن والاه، وهي التي كانت تمجده بالأمس القريب وتنقل خزعبلاته على الهواء، كما تتكشف يوماً بعد يوم الإدانات الموثقة للدور القطري في تدمير ليبيا.

وهذا ما يؤكده رئيس وزراء ليبيا السابق محمود جبريل الذي اتهم قطر بكل صراحة بدعم أطراف ليبية بعينها للتأثير على القرار السياسي الليبي، في إشارة لجماعات متطرفة.

إرهاب إعلامي للمنطقة الأفريقية
وجهت قطر ترسانتها الإعلامية لغزو وابتزاز المنطقة الأفريقية ممثلة في قناة الجزيرة الفضائية، حيث لم تكتف بالبث العربي بل أطلقت قناة باللغة السواحلية تستهدف قرابة 100 مليون نسمة في جنوب وشرق أفريقيا، وتعمل منذ سنوات على إطلاق قناة ناطقة باللغة الفرنسية تبث من العاصمة السنغالية داكار، لاستهداف سكان غرب القارة السمراء.

تحت غطاء "عصا الجزيرة الغليظة" خاصة للأنظمة الأفريقية التي تواجه معارضات سياسية قوية، تمكنت قطر من تذليل الطريق أمام مآربها الاقتصادية والسياسية الغامضة، فحصلت على عقود استثمارية في هذه الدولة وتلك، لكن هذه المشروعات الاستثمارية سرعان ما تسحبها الدوحة بدون سابق إشعار للطرف الثاني كما حصل مع موريتانيا بعد دخولها في مشروع "معدني كبير"، وأحياناً تتحفظ الدولة المضيفة على التحركات القطرية من وراء المشروع فتطردها بصمت، ويبقى وراء الكواليس الدبلوماسية ما وراءها، كما حدث مع مشروع "الديار" القطرية في موريتانيا.

ويعتقد مراقبون للشأن الأفريقي أن اهتمام قطر بضخ استثمارات هائلة في المنطقة الأفريقية يدعو للتوجس من المآرب القطرية المنشودة وراء بسط نفوذها في هذه المنطقة من العالم، وتشير بعض الإحصائيات إلى أن جهاز "قطر" للاستثمار ضخ في السنوات الأخيرة ما يربو على 30 مليار دولار في المنطقة، خاصة في السودان وإثيوبيا ومالي وكينيا وجنوب أفريقيا وموريتانيا، حيث تساهم قطر بنسبة (25%) في رخص استغلال النفط والغاز في منطقة "تاودني" الموريتانية.

وفي ليبيا وحدها ضخت قطر بعيد الإطاحة بالقذافي ما يربو على 700 مليار دولار تحت مظلة استثمارات لم يجن الليبيون من حصادها سوى تدمير البلاد وتمكين الجماعات المتطرفة.

أما في دولة مالي، فقد أعلن وزير المناجم عن منح قطر عدة مشروعات تعدينية، وكشف ممثل الاستثمارات القطرية في مالي أن قطر تسعى لأن تكون دولة مالي "قاعدتها" في منطقة غرب أفريقيا، حيث تخطط لبناء سكة حديدية، تربط السودان بتشاد ومالي والكاميرون ونيجريا ويمتد لغاية المحيط الأطلسي.

هذا النفوذ القطري المريب في المنطقة الأفريقية، يؤكد أن أغراضه السياسية خطيرة على المنطقة، خاصة إذا نظرنا لحصاد هذا النفوذ في بعض الدول التي تم تنفيذ السيناريوهات المشبوهة فيها، كتونس وليبيا ومالي مثلاً.

فقد قررت الإدارة القطرية أن تجعل من تونس ساحة خلفية لتدمير ليبيا خلال الثورة على القذافي، وهناك من يرى أن قطر خططت كي تبسط نفوذها في تونس، وتحولها لمزرعة لمشروعاتها السياسية المتهورة، ففي كتابه "الوجه الخفي للثورة التونسية" يكشف المازري الحداد السفير التونسي السابق لدى "اليونسكو" أن ما حدث في تونس، كان انقلاباً قادته قطر، وحولت تونس إلى مركز لعملياتها الداعمة للمليشيات المسلحة، كما سيطرت على ثلاثة مطارات في جنوب البلاد، وهي مطارات رمادة وجربة وقابس، وميناء جرجيس البحري، وحولتها إلى منافذ لتوريد الأسلحة والذخيرة، ثم تهريبها إلى ليبيا في صناديق تحمل شعارات الإغاثة والعمل الإنساني.

ويرى المتابعون للشأن التونسي، أن مرحلة حكم "الترويكا" في تونس كانت مرحلة السيادة القطرية المطلقة على بلادهم، لدرجة تحويل تونس إلى معسكر لتدريب المرتزقة والمتطرفين، لإرسالهم في مهام لدول أخرى خاصة ليبيا.

ولعل فضيحة الجاسوس القطري علي الجربوعي المثير للجدل، التي فجرها البرلماني التونسي عن حزب "نداء تونس"، منجي الحرباوي، وأشعلت جدلاً سياسياً وإعلامياً كبيراً في تونس، حيث ينشط الجاسوس القطري على الساحة التونسية بحماية أمنية رسمية، ويجري تحويلات بمليارات الدولارات من حساب بنكي مسجل باسم القيادة العامة للقوات المسلحة القطرية، بالبنك القطري التونسي في تونس العاصمة.

وكشفت التحقيقات القضائية التونسية، أن الجربوعي وهو عميد بالجيش القطري، مكلف بمهمة بشمال أفريقيا خاصة في موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا، وقد أسس شبكة من العملاء والجواسيس داخل هذه البلدان، لجمع المعلومات وتنفيذ الأجندات القطرية المشبوهة.

لكن أخطر اتهام يواجه الجربوعي في تونس هو اتهامه بالتخطيط لاغتيال الزعيم اليساري التونسي شكري بلعيد، حيث تؤكد مصادر أمنية تونسية أن بلعيد كان يجاهر باستيائه الشديد من النفوذ القطري المتنامي في تونس، ليتم اغتياله مباشرة بعد إعلانه امتلاك معلومات وحقائق خطيرة عن دخول أطراف مشبوهة للتراب التونسي والجزائري، عبر سيارات قطرية رباعية الدفع، مجهزة بمعدات متطورة.

وبناءً على هذه المعلومات الخطيرة، وجه النائب البرلماني البلجيكي، لورانس لويس، التهمة لدولة قطر بالتورط في اغتيال الزعيم اليساري بلعيد.

كما تشير تقارير إعلامية واستخباراتية إلى دور قطري مشبوه في دولة مالي، يورط الدوحة في التنسيق مع الجماعات الإرهابية في شمال مالي ومنطقة الساحل والصحراء.

ويعيد بعض الخبراء الفرنسيين تنامي قوة وسيطرة ثلاث جماعات متطرفة هي: تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، وجماعة أنصار الدين، وحركة التوحيد والجهاد، في شمال مالي إلى الدعم القطري المادي واللوجستي القوي لهذه الجماعات الخطرة. ونددت مرشحة الرئاسة الفرنسية مارين لوبان صراحة بالدعم المالي الذي تقدمه قطر لهذه المجموعات المتطرفة في كافة أنحاء العالم.

وكان عمدة مدينة "غاو" بشمال مالي سادو ديالو قد صرخ بأعلى صوته في صيف العام 2012، متهماً قطر بتمويل إرهابيين في المنطقة من خلال هلالها الأحمر.

ونقلت وكالة "فرانس برس" عن عنصر من حركة الجهاد والتوحيد لم تكشف هويته، أن قطر كانت تساعد هذه الحركة لكي تتقرب من السكان.

ويؤكد إريك دينيسي رئيس المركز الفرنسي المكلف بالبحوث في مجال الاستخبارات، أن قطر تعودت على لعب أدوار كثيرة في المناطق التي تتواجد فيها الجماعات الإرهابية، كما هو الحال في ليبيا وسورية.

ولم تسلم السنغال من التدخل القطري في الشأن الداخلي، فقد انتقد سياسيون سينغاليون تدخل قطر لدى السلطات السنغالية لإطلاق سراح الوزير السابق كريم واد نجل الرئيس السنغالي السابق عبدالله واد، معتبرين أن الأمر شأن داخلي، لا يحق لأي دولة أجنبية التدخل فيه، وانزعج السنغاليون أكثر عندما غادر كريم واد الأراضي السنغالية متوجهاً للدوحة ساعات قليلة بعيد إطلاق سراحه، عقب أن أعلن ترشحه للرئاسيات المقبلة.

وكان القضاء السنغالي قد حكم على كريم ست سنوات نافذة على ذمة التحقيق بتهمة الإثراء غير المشروع، واختلاس قرابة 200 مليون دولار خلال حكم والده حيث شغل مناصب حكومية سامية، لكن قطر ضغطت على السنغال حتى أطلقت سراحه، وبدأ تحضير حملته الانتخابية لرئاسة السنغال من الدوحة.

سياسة "فرق تسد"
ولا تستثني السياسة القطرية أي شبر من القارة السمراء، فحسب معهد الدراسات الأمنية الأفريقية، تسعى قطر من خلال تغلغلها في أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقي تحديداً، لبسط السيطرة على أحد أهم المناطق التي تؤثر على الملاحة البحرية في المنطقة، فقد تدخلت في صراعات بين كل من السودان وأريتريا، والصومال وإثيوبيا، وأريتريا وجيبوتي. ومن غرائب السياسة القطرية في القرن الأفريقي، تناقض المواقف وتضاربها، فنجدها تدخل على خط الأزمة الإثيوبية الأريترية، حيث اتهمتها إثيوبيا بدعم أريتريا ضدها مما أدى لقطع العلاقات الدبلوماسية معها سنة 2008 كما اتهمتها بتمويل أمراء الحرب الصوماليين الناشطين على الحدود الإثيوبية. لكن مع احتدام الأزمة المصرية الأثيوبية تعمل قطر المستحيل لتعيد الود مع إثيوبيا لتتمكن من الدخول على خط الأزمة لتدعم أديس أبابا في جهودها لبناء سد النهضة بقرض مريح قيمته 500 مليون دولار.

وفضلاً عن الدور القطري المثير للجدل في مصر المتجسد في دعمها المعلن لجماعة الإخوان الإرهابية، وتسخير إمكانياتها المادية والإعلامية الهائلة، لتمكينها، والتشويش على الحكومة المصرية، تبذل الدوحة جهوداً مضنية للوقيعة بين مصر والسودان. ورغم غموض الأجندات القطرية التي طافت كل أرجاء القارة السمراء، منتهزةً الأوضاع الاجتماعية الصعبة لكثير من البلدان الأفريقية، والتوترات والقلاقل التي تحصل في هذا البلد أو ذاك، والاحتكاكات التي تحدث بين بلدين متجاورين، يعتبر بعض المراقبين أن دافعها الأساسي هو الجنوح للزعامة الوهمية كي تظهر قطر الصغيرة بحجمها باسطة نفوذها في القارة الأفريقية من خلال زرع خلايا تابعة لها تعمل على الاستيلاء على السلطة في هذا البلد وذاك. ويرى محللون أن المكانة المرموقة للمملكة لدى حكومات القارة وفي نفوس الشعوب الأفريقية عموماً، هي التي تزعج القطريين ويسعون من خلال تبديد مليارات الدولارات لشرائها أو إثارة الفتنة وعدم الاستقرار في البلدان التي لا تتجاوب مع الحلم القطري الطفولي.    
   

 

Email