لبنان في مهب الفراغ الرئاسي

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

أتمّ الشغور الرئاسي في لبنان أمس عامه الأول، بعد أكثر من 23 جلسة نيابية دعا إليها رئيس نبيه برّي لانتخاب رئيس للجمهورية ولم يكتمل نصابها.. وبذلك، تخطّى الاستحقاق مدّة الفراغ الذي خلّفته ولاية الرئيس إميل لحود بعد انتهائها، طوال ستة شهور (بين 24 نوفمبر 2007 و24 مايو 2008) عشية انتخاب الرئيس ميشال سليمان.

وفي حين لم تعد الدعوة إلى جلسة انتخاب الرئيس سوى رقم في سلسلة قد لا تنتهي قريباً، لا أحد يعرف من يكون ومتى يُنتخب، يبقى أن يتجاوز الاستحقاق الرقم القياسي الذي خلّفه أول شغور مع انقضاء ولاية الرئيس أمين الجميل، وهو 13 شهراً و13 يوماً، بين 23 سبتمبر 1988 و5 نوفمبر 1989. ومن غير المستبعد تخطّيه فعلاً الى أبعد من ذلك.. علماً أن ظروف الفراغ في موقع الرئاسة الأولى بين عهود الرؤساء الجميل ولحود وسليمان تختلف، وإن كان القاسم المشترك بين التجارب الثلاث «تغييب» رئيس الجمهورية. والفراغ في العام 1988 حصل قبل اتفاق الطائف، في حين حصل فراغ العام 2007 و2014 بعد تطبيق هذا الاتفاق، والذي لم يعطِ رئيس الجمهورية وحده صلاحية تشكيل حكومة كما حصل مع الرئيس الجميل.

وبرغم إضعاف اتفاق الطائف صلاحيات رئيس الجمهورية، فإن الرئيس يبقى «رمز الوطن وحامي الدستور»، ذلك أن بإمكانه، في حال كان لعهده برنامج عمل شامل وجامع وهادف، ومارس صلاحياته في تأليف الحكومة بصورة صحيحة وعادلة وشفافة، أن يتأكد من أن معظم الوزراء الذين يختارهم رئيس الحكومة المكلّف بموافقته يتبنّون برنامج عمل العهد.

وفي السياق، تجدر الإشارة الى أن شغور الرئاسة الأولى بعد انقضاء ولاية الرئيس ميشال سليمان مطابقٌ بأسبابه تقريباً للشغور الذي تلى انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود في2007، وهو الانقسام الحادّ بين قوى 8 و14 آذار، وتناقض مشروعيهما وخياراتهما، ناهيك بتنافسهما على إيصال كل منهما رئيساً من صفوفه. وأفضت الحصيلة الآن، كما من قبل، الى وضع صلاحيات الرئيس بين أيدي الحكومة القائمة والتي هي، خلافاً لحكومة الفريق الواحد في العام 2007، ائتلاف فريقين لا يجمع بينهما سوى التناقض والتنافر والانقسام، ما يحيل إجماعهم على قرار مستعصياً من غير انطوائه على تبادل مكشوف للمكاسب والمصالح والحصص.

حتى إشعار آخر

وإذ لا شيء في الأفق يوحي بتوقّف عدّاد الأيام قريباً، والخشية تتزايد من أن يبدأ تعداد الأشهر والسنوات بدل تعداد أيام الفراغ الرئاسي، في ظلّ النظرية الشائعة أنه من دون رئيس «الأمور ماشية»، فإن الداخل لا يزال مشدوداً الى أزماته التي يراوح معظمها في مكانه، وإن كان مشهده منصبّاً على تعزيز الحوار وخفض الخطاب المتبادل، إفساحاً في إنجاح الجهود لبلورة توافق على انتخابات رئاسة الجمهورية، ورسم أفق تشريع الضرورة النيابي، وسط الصراع المستمر بين تشريع الضرورة وضرورة التشريع في غياب رئيس الجمهورية.. أما رئيس الحكومة تمام سلام، فيوجّه اليوم كلمة إلى اللبنانيين، يتناول فيها شبه الشلل المؤسّساتي، ويحذر فيها من مخاطر استمرار الشغور الرئاسي، ويدعو إلى حلّ هذه المعضلة، خصوصاً في خضمّ الأوضاع المخيفة في المنطقة.

ومنذ أن غادر ميشال سليمان قصر بعبدا، قائلاً أمام موظّفي القصر وهو يودّعهم: «شعرت بالخجل عندما انتخِبت رئيساً للجمهورية بعد 7 مايو 2008. والآن أشعر بالفخر بأني خرجت من رئاسة الجمهورية وفقاً للأصول الديمقراطية، وتطبيقاً لقاعدة تداول السلطة. وكان حلمي الحقيقي أن أسلّم الرئاسة الى رئيس جديد يُنتخب من قبل مجلس النواب، ولكن هذا الأمر لم يتحقّق»، فإن هناك الكثير من الأسئلة التي طرِحت، لجهة احتمال أن تطول فترة الفراغ الرئاسي أو أن يكون لها تداعيات خطيرة، أبرزها الانتقال إلى مرحلة المطالبة بإدخال تعديلات على النظام السياسي أو امتداد الفراغ إلى مختلف المؤسّسات الدستورية.

وهكذا، انتهى العهد، من دون تسليم وتسلّم بين الرئيس ميشال سليمان ورئيس جديد مفترض. ومع انتهاء العهد، طُرح السؤال الأساسي الذي حاول كثيرون عدم الوصول إليه، وهو: ماذا بعد منتصف 24 ـ 25 مايو 2014؟

دستورياً، لا تزال السلطة الإجرائية منوطة بمجلس الوزراء مجتمعاً.. وجلسة تلو أخرى، لا يزال نوّاب لبنان متكيّفين مع عدم اكتمال النصاب القانوني لانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، في حين يفتقد مقرّ الرئاسة الأولى زحمة الزوّار، ولم يبقَ في زواياه إلا الانتظار القارص.. وحده موقعه المحاط بالأشجار «يتفرّج» على العاصمة من بعيد، ويتابع ما يدور في كواليسها. يطلّ على الجمهورية «المعلّقة»، فيما هو محاط بعيون العالم كلّه الى أجل غير مسمّى!

هو الفراغ يحيط بالمكان: أضواء القصر لا تزال مطفأة، لأن الحلّ تأخّر في الوصول إليه. السارية عارية في الباحة الرئيسة للقصر، لأن من يُرفع له العلم ولا يوشّح إلا أمامه ليس موجوداً، ولا وجود لأعلام دول عربية أو أجنبية اعتادت وجودها الساريات الأخرى الملاصقة. كذلك، أنزِل العلم الذي يرفع فوق جناح إقامة الرئيس، لأن المقيم ليس موجوداً أيضاً. البركة في وسط الباحة ركدت مياهها، والنافورة التي كانت ترتفع إيذاناً بوجود الرئيس في مكتبه أقفِلت وجفّت الى أجل غير مسمّى.. مكتب الرئيس، الذي يفتح عادةً ببطاقة ممغنطة ذات أرقام سريّة، فقد أقفِل وتبدّلت أرقام البطاقة، ولن يفتح إلا للرئيس الجديد، عندما يأتي، حيث لا تزال صورة الرئيس ميشال سليمان معلّقة في المكتب، إلى حين صدور مذكرة رسميّة تقضي باستبدالها بصورة الرئيس الجديد.. أما «حامل الراية»، المكلّف حماية الرئيس، وهو من عناصر الحرس الجمهوري، فتبدّلت مهمته وجلس وراء مكتب استقرّ أمام المدخل المقفل ليقوم بحراسة الفراغ، إذ لا لزوم لحماية الغائب!.. أما أنظار اللبنانيين، فلا تزال ترقب «الساعة الصفر» في ساحة النجمة (وسط بيروت)، والتي تضبط عقارب ساعتها العريقة، منذ 25 مايو 2014، على الاستحقاق الرئاسي.

على أي حال، وبانتظار الآتي، فإن في قصر الفراغ وشاحين ينتظران ذهاب الرئيس العتيد المنتظر إلى مجلس النوّاب لأداء القسم، ثم عودته بموكب رسمي مع رئيسَي البرلمان والحكومة، إن أمكن ذلك، الى بعبدا لتسلّم مهامه رسمياً، حيث يرفع العلم على السارية ويعزف النشيد الوطني له قبل أن يستعرض حرس الشرف.. ولكن يبقى الأهمّ، أن لا رئيس سلف لتوشيح الخلف بوسامَي الأرز الوطني (الوشاح الأكبر) والاستحقاق اللبناني من الدرجة الاستثنائية.

ووسط استمرار الظروف والمعطيات السياسية نفسها التي عطّلت هذا الاستحقاق، وتسبّبت بتمادي أزمة الفراغ الرئاسي، وإزاء المشهد الرئاسي الذي تكثر تعقيداته، ويبقى نجم اللقاءات والاتصالات والتكهّنات، لا تبدو أفق المخرج المفترض لإنتاج رئيس جديد متوافرة، ذلك أن المعلومات، الواردة من الخارج والمتقاطعة مع معطيات الداخل، لا توحي حتى الآن بإمكان إحداث الخرق المرجو، إذ تبدو قوى 8 آذار ماضية في مسلسل تعطيل الجلسات، إلا اذا توافر التوافق، على قاعدة: إما التوافق أو لا نِصاب، فيما تستمر قوى 14 آذار في تبنّي ترشيح رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، على قاعدة: إما جعجع أو لا انتخاب. أما سيناريو تطيير النصاب، فيبقى متربّعاً على عرش جلسات مفترضة حتى إشعار آخر.

.. وبانتظار «الساعة الصفر»

وبعدما فشل مجلس النواب في اختبار الاستحقاق الرئاسي، للمرة الثالثة والعشرين على التوالي، حيث أدّى تطيير نصاب الثلثين، لغياب التوافق على اسم الرئيس، على جاري العادة، دون عقد الجلسة الانتخابية الأخيرة التي كانت مقرّرة في 13 من الجاري، ما أشار مجدّداً الى إبقاء الانتخاب الرئاسي معلّقاً لأجل غير مسمّى. ووسط استمرار الظروف والمعطيات السياسية نفسها التي عطّلت هذا الاستحقاق وتسبّبت بتمادي أزمة الفراغ الرئاسي، أرجأ رئيس مجلس النواب نبيه بري الجلسة إلى 3 يونيو المقبل، لعدم اكتمال النصاب.

وفي انتظار الجلسة الانتخابيّة في 3 يونيو المقبل، للإفراج عن هويّة الرئيس الثالث عشر للجمهورية، لا بدّ من الإشارة الى أن «الساعة الصفر» الرئاسيّة تحدّدها «ساعة النجمة»، أو الساعة المتمركزة أمام مدخل البرلمان اللبناني في وسط بيروت. أما اليوم، فإن ساعة الساحة تضبط مواعيدها على زمن آخر، مزدحم بالقلق والدقّات المنبئة بالخطر على المستقبل، وهي تعدّ الساعات التي تفصلها عن «الساعة الصفر» الرئاسية، علّها تكون مقدّمة لزمن لبناني أفضل.

وفي السياق، يجدر التذكير بأن استحقاق 2008، الذي أوصل الرئيس السابق ميشال سليمان الى سدّة الرئاسة، كان شهد تحديد 20 موعداً على امتداد ستة شهور. كما يجدر التذكير أيضاً بأن جلسة 13 من الجاري لانتخاب رئيس للجمهورية حملت الرقم 23، إذ بدأت الجلسات في 23 أبريل 2014. بالتالي.

وفي انتظار اللحظة الرئاسيّة المؤجّلة، وعلى وقع تبادل الاتهامات الداخلية بتعطيل جلسات انتخاب الرئيس، لا يزال الشغور الرئاسي مستمرّاً في إنتاج الأزمات الدستورية والسياسية التي تبدو آيلة الى المزيد من التصعيد والتعقيد. وأبرز هذه الأزمات، الملف التشريعي الذي تراوح عقدته مكانها، بفعل قرار الكتل المسيحية الأساسية (الممثلة بحزبَي الكتائب والقوات اللبنانية والتيار الوطني الحرّ، أي ما يساوي ثلث مجلس النواب) بمقاطعتها لعدم توافر شرط تشريع الضرورة في جدول أعمالها. وكان الرئيس بري حذّر من أن عدم اجتماع المجلس خلال فترة العقد العادي (تمتد حتى 31 من الجاري)، من دون سبب قاهر، سيجعله عرضة للحلّ، بموجب الدستور.

وفي سياق المعلومات، تردّد أن لا أفق منظوراً لانتخاب رئيس الجمهورية من الآن وحتى انتهاء الدورة العادية الحالية للمجلس النيابي، والتي تنتهي في 31 من الجاري، بحيث سيكون من الاستحالة القانونية أمام المجلس تعديل الدستور لانتخاب الرئيس إلا في دورة عادية، الأمر الذي يعني أنه على المجلس الانتظار حتى شهر أكتوبر المقبل للالتئام، تحت وطأة استحالة صدور مرسوم عقد استثنائي قبل ذلك عن حكومة الرئيس تمام سلام، الموكل اليها صلاحيات رئيس الجمهورية، من جراء انقسامها حيال اختصاص إصدارها مرسوم العقد الاستثنائي، ورفض الوزراء المسيحيين انعقاد البرلمان للتشريع في ظل استمرار شغور الرئاسة الاولى.

7+3

كان الرئيس شارل حلو أول من وقّع اسمه على سجل الشرف، كأول رئيس يدخل إلى قصر بعبدا، في السنة الأخيرة من ولايته (من منتصف العام 1969 الى منتصف العام 1970).

أكل القصر نصيبه من الحرب الأهلية منذ البداية. فقد دمّر القصف الغرفة المفضّلة والأحبّ على قلب الرئيس سليمان فرنجية، وهي غرفة زجاجية تطلّ على البحر لجهة الغرب، كان تعوّد قضاء معظم أوقات فراغه فيها. لذا، قرّر الرئيس نقل مقرّ الرئاسة إلى بلدة الكفور، ولم يعد إلى بعبدا إطلاقاً إلى أن سلّم مقاليد الرئاسة إلى الرئيس إلياس سركيس في قصر بلدية الذوق الذي شكّل مقرّاً رئاسياً ليوم واحد فقط.

وفي الفترة الأولى من ولايته، أقام الرئيس الياس سركيس في منزله الخاص في انتظار انتهاء إصلاح القصر، وعندما انتقل إليه بقي فيه حتى انتهاء ولايته. وفيه سلّم الرئاسة إلى الرئيس أمين الجميل الذي تسلّم مقاليد الحكم بعد اغتيال شقيقه بشير الذي لم يدخل القصر وظلّ رئيساً منتخباً فقط.

أما الرئيس رينيه معوّض فأمضى المدّة القصيرة من ولايته متنقّلاً بين الشمال ومقرّ الرئاسة المؤقّت في الرملة البيضاء، قبل اغتياله في قلب بيروت يوم عيد الاستقلال. وبين عامي 1993 و1998، سكن القصر الرئيس الياس الهراوي، بعد انتقاله من مبنى الرملة البيضاء الذي تحوّل الى مبنى لجريدة المستقبل.

لا سلف يُسلّم ولا خلَف يتسلّم

 

 

ليل 24- 25 مايو 2014، خرج الرئيس ميشال سليمان من قصر بعبدا على نحو مغاير. ليس كالرئيس إميل لحود وحيداً إلا من وداع خجول ومتواضع للحرس الجمهوري وبعض موظفي القصر، ولم يكن حلفاؤه حتى في عداد المودّعين.. وليس كالرئيس أمين الجميل من قبل وحيداً أيضاً، تاركاً وراءه قنبلة موقوتة لم يطل الوقت قبل انفجارها، هي تعيين قائد الجيش النائب الحالي ميشال عون رئيساً لحكومة عسكرية انتقالية في مرحلة نزاعه مع قائد القوات اللبنانية سمير جعجع على اقتسام السلطة والشارع في المناطق المسيحية آنذاك..

خرج سليمان من قصر بعبدا من دون خلف بمظاهر احتفال اعتادها اللبنانيون قبل الحرب بين سلف يسلّم وخلف يتسلّم.. والأصحّ أنه غادر بطريقة غير مألوفة، شكّلت سابقة: لم يجد أحداً في انتظاره لدى دخوله قصر بعبدا في العام 2008، ولم يرَ أحداً يستقبله ويسلّم اليه القصر قبل أن ينصرف.

Email