مناسبة

بورقيبة دعا في أريحا منذ 43 عاماً إلى اختيار قيادة مسؤولة تتمتع بإجماع شعبي

ت + ت - الحجم الطبيعي

فى خطوة غير مسبوقة منذ 43 عاما خاطب الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة بالفلسطينيين في مدينة اريحا بالضفة الغربية مشيدا بصلابتهم وإصرارهم على استعادة الحقوق العربية.

وفي خطابه حث بورقيبة الفلسطينيين على عدم الركون الى الخطب الحماسية والعواطف بل صياغة مواقف عملية وواقعية وخطط لمواجهة مغتصبي الحق فضلا عن البحث عن قيادة واعية تتمتع بإجماع شعبي لقيادة مسيرة التحرير التي يجب ان يتقدم صفوفها أصحاب الحق أولا .

في الآتي مختارات من أهم أقوال بورقيبة في أريحا:

«إني شديد التأثر من هذه المناظر، وشديد الاعتزاز فلِما لمسته من حماس وإرادة حديدية وتصميم على استرجاع الحق كاملاً. تعلمون أن الشعب التونسي، كان، إبان النكبة، مغلوباً على أمره، يعانى وطأة الحكم الاستعماري المباشر. ومع ذلك، فقد أسهم في القيام بالواجب المقدس، وشارك في حرب فلسطين. لكننا نعتبر في تونس، أننا لا نزال مقصّرين.

لكن ما أريد أن ألفت إليه نظركم، أصحاب الحق السليب، كما كنا نحن أصحاب الحق، الذي استبد به الاستعمار في تونس، هو أنه يجب أن تكونوا في الصف الأول من هذه الواجهة، التي تعمل على حماية فلسطين. إنني أصارحكم بما أعتقده في قرارة نفسي، وما آمنت به، من بعد تجربتي في الكفاح من أجل التحرر والانعتاق، التي دامت 34 سنة، فإن دوركم في المعركة هو الدور الأول، وهذا ما يجب أن تضعوه نصب أعينكم في قرارة نفوسكم وعقولكم.

تجربة شخصية

أريد أن ألفت نظركم إلى أن تجربتي الشخصية في كفاحي الطويل، أكّدت لي أن العاطفة المشوبة، والأحاسيس الوطنية المتقدة، التي أرى نموذجاً حيا منها على وجوهكم، لا تكفي لتحقيق الانتصار على الاستعمار، بل لا بد مع الحماس والاستعداد للتضحية والموت والاستشهاد من قيادة موفقة، تتحلى بخصال كثيرة، ولا بد من رأس يفكر ويخطط، وينظر إلى المستقبل البعيد. والكفاح المركز، يقتضي فهْم العدو، ومعرفة إمكانياتنا الحقيقية، وتقدير إمكانيات الخصم، وضبطها بأكثر ما يمكن من الموضوعية والتحري والتثبت، حتى لا نرتمي في مغامرة أخرى، تصيبنا بنكبة ثانية، وتعود بنا أشواطاً بعيدة إلى الوراء.

إن توفير أسباب النجاح من خصائص القادة والزعماء والمسؤولين وهذه الأسباب، كانت تنقصنا في السنين الماضية، حين خضنا المعركة. وسنعمل - إن شاء الله - بكد وجد وإخلاص وصدق على توفيرها للمعركة المقبلة. ولقد بدأنا هذا العمل الإيجابي، ولكنه لم ينتهِ بعد، وهو يحتاج إلى جانب عظيم من الصدق والإخلاص والجدية والشجاعة الأدبية.

إن الإكثار من الكلام الحماسي، أمر سهل، وبسيط للغاية. أمّا ما هو أصعب وأهم، فهو الصدق في القول، والإخلاص في العمل، ودخول البيوت من أبوابها. وإذا اتضح أن قوانا، لا قِبل لها بمحق العدو ورميه في البحر، فعلينا ألاّ نتجاهل ذلك، بل يجب أن ندخله في حسابنا، وأن نستخدم، مع مواصلتنا الكفاح بالسواعد، الإستراتيجية، وأن نستوحيها في مواقفنا، حتى نتقدم نحو الهدف، مرحلة بعد مرحلة، مستعينين في ذلك بالحيلة والجهد، فإن الحرب، كما لا يخفى، كر وفر.

و على الزعيم المسؤول عن المعركة، أن يتثبت من الطريق الموصل إلى الهدف، وأن يدخل في حسابه المنعرجات، التي قد يضطر إلى اتّباعها، لاجتياز العراقيل والصعوبات. وعندما يدرك الزعيم، أن الخط المستقيم، لا يمكن أن يوصل إلى غاية، فإنه يضطر لاتّباع المنعرج، فيبدو، في الظاهر، وكأنه ترك الهدف جانباً، الأمر الذي يثير ضجة الأتباع. وفي هذه الحالة، يجب على القائد، أن يفهمهم أنه اضطر إلى ذلك اضطراراً، وأنه سيعود إلى الطريق، بعد اجتياز الصعوبة، التي واجهته.

ويبدو أن هذا الأمر، قد تعذر على الكثير من الزعماء العرب. والواقع أن الكارثة، التي مُنينا بها، ووقوفنا على حدود فلسطين العربية، دليل على أن القيادة، لم تكن موفقة، فإن عجز الجيش عن تحقيق النصر، مع توافر الحماس، يدل على خطأ القيادة، بدون شك. وكما قلت لكم، فإننا نعمل بجد واجتهاد، على رفع مستوى القيادة، وجعلها في مرتبة مسؤولياتها، بالاجتماعات الدورية، وبمؤتمرات القمة وغيرها.

ولا شك في أنه لا يمكن لأي زعيم عربي، يتهم، لحديثه عن الحل المنقوص، أو عن الحل الوقتي، بالخيانة، ويوصف بأنه صنيعة الاستعمار، أن يواصل عمله في أتون من المهاترات. ولكي لا يعطل الشعب تنفيذ الخطة، يجب أن تكون له، وهذا ما توافر في تونس - والحمد لله - ثقة في زعمائه وفي قادته وفي المسؤولين، حتى يمكنهم من حرية التصرف والوصول إلى الهدف.

ندم عربي

وما كنا لننجح في تونس، خلال بضع سنوات، لولا أننا تخلينا عن سياسة (الكل أو لا شيء)، وقبلنا كل خطوة، تقربنا من الهدف أمّا هنا، فقد أبى العرب الحل المنقوص، ورفضوا التقسيم وما جاء به الكتاب الأبيض. ثم أصابهم الندم، وأخذوا يرددون: ليتنا قبِلنا ذلك الحل، إذاً لكنا في حالة أفضل من التي نحن عليها.

ولو رفضنا في تونس، عام 1954، الحكم الذاتي، باعتباره حلاً منقوصاً، لبقيت البلاد التونسية، إلى يومنا هذا، تحت الحكم الفرنسي المباشر، ولظلت مستعمرة، تحكمها باريس. هذا ما أحببت أن أقوله لكم في هذه الزيارة، التي سيتذكرها، دائماً، هذا الرجل المتواضع أخوكم الحبيب بورقيبة. وهذه هي نصيحتي، التي أقدمها لكم ولكل العرب، حتى تضعوا في الميزان، لا العاطفة والحماس فقط، بل كذلك جميع معطيات القضية.

وهكذا نصل إلى الهدف، ولا نبقى سبع عشرة سنة أخرى، أو عشرين سنة، نردد: (الوطن السليب... الوطن السليب)، دون جدوى. وأخيراً، أدعو لكم بالتوفيق وسعة الصبر، حتى نوفر أسباب النجاح. أدعو للمسلمين بالتكتل، وللقيادة بالانسجام والابتعاد عن المركبات، سواء كانت مركبات للنقص إزاء العدو، باعتباره في منتهى القوة، أو مركبات الغرور والتهور والارتماء على الهزيمة المحققة، التي يمكن تلافيها بإمعان النظر، وهكذا، نضمن النجاح. ».

ردود غاضبة

أصدرت منظمة التحرير الفلسطينية بياناً، بتاريخ 23 أبريل 1965، شجبت فيه تصريحات الرئيس بورقيبة ونشرت جريدة «الأهرام» المصرية، في عددها الصادر في 25 إبريل 1965، تصريحاً للشقيري، قال فيه: «إنه نظراً إلى التصريحات الأخيرة، التي أدلى بها الرئيس بورقيبة، والتي احتوت، بمجموعها، مغايرة صريحة لقرارات مؤتمرَي القمة.

في القاهرة والأسكندرية، لا حاجة، في الوقت الحاضر، لافتتاح مكتب في تونس. ونعد كل تونسي يعيش فوق أرض تونس، ممثلاً للشعب الفلسطيني في كفاحه ونضاله» كما دعا الشقيري مجلس الجامعة العربية لدورة استثنائية، لإقرار فصل تونس من الجامعة العربية، ومجلس الدفاع المشترك، وجميع الهيئات واللجان المتفرعة عنها، مع تحية الشعب التونسي، لكفاحه من أجل تحرير وطنه.

وعقد المجلس الوطني الفلسطيني دور انعقاده الثاني في القاهرة، خلال الفترة من 31 مايو حتى 4 يونيو 1965، بحضور الرئيس جمال عبدالناصر. وأعلن أن تصريحات الحبيب بورقيبة خيانة عظمى لقضية الفلسطينية، وخروج على الاجماع العربي، وافتئات على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

وفى 27 أبريل 1965، ناقش مجلس الأمة المصرى تصريحات بورقيبة الأخيرة، وطالب عدد كبير من الأعضاء، بطرد حكومة تونس من الجامعة العربية، ومن مؤتمرات القمة، وبسحب السفير العربي من تونس وفى 28 أبريل، خرجت تظاهرات في القاهرة، استنكاراً لتصريحات الرئيس بورقيبة، وحاصرت سفارة تونس وحاولت إحراق منزل السفير التونسي. إلا أنها رُدت عن ذلك، بعد اشتباكها بقوات الشرطة، مما أدى إلى وقوع خمسين إصابة من المتظاهرين ورجال الشرطة.

وفى مناسبة عيد العمال، في الأول من مايو 1965، ألقى الرئيس عبد الناصر خطاباً سياسياً، شن فيه هجوما قاسيا على بورقيبة وقال :«إن تصريحات بورقيبة ومقترحاته، تعني التعايش السلمي مع إسرائيل، وإن هذا الكلام يضعف قضية فلسطين، على الرغم من أن الشعب العربي كله، قد رفضه وأن اقتراح بورقيبة التفاوض مع إسرائيل، والتعايش معها، قد قوبل بالتهليل في الغرب، وفي إسرائيل» .

وفي العراق قال الدكتور فؤاد الركابي، السكرتير المساعد للاتحاد الاشتراكي العربي «إن هذه التصريحات من الطعنات، التي وجهت، حتى الآن، إلى القضية الفلسطينية، سواء من القوى الاستعمارية أو من القوى الرجعية العربية وأعلن طاهر يحيى، رئيس الحكومة العراقية، أن شعب العراق، لا يمكن أن يقبل أي مساومة، أو حلول وسط للمشكلة الفلسطينية.

وفى الأول من مايو 1965، وصف الرئيس العراقي، عبد السلام عارف، في مهرجان أقيم في مناسبة افتتاح مقر منظمة التحرير الفلسطينية في بغداد، مقترحات الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة بأنها «خروج على مقررات مؤتمرَي القمة، فضلاً عن أنها غير مقبولة، وأنها مردودة جملة وتفصيلاً» وفي سوريا خرجت في السادس عشر من مارس 1965، تظاهرات كبرى صاخبة في دمشق، تستنكر تصريحات بورقيبة و أصدر كميل شمعون، رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق، بياناً اتهم بورقيبة بالجهل ببعض نواحي كارثة فلسطين، لانعزاله عنها، وعدم إحساسه باليأس والقنوط الشديدين .

رسالة

في 29 أبريل 1965 وجه الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة رسالة الى الرئيس المصري جمال عبد الناصر رسالة صريحة توضيحا لموقفه وما ورد فى خطابه بأريحا من دعوة لنهج واقعي فى التعاطي مع القضية الفلسطينية.

شدد بورقيبة فى رسالته على أن« الخلافات، مهْما تكن، يمكن التغلب عليها بالمنطق السليم والنية الطاهرة والعزيمة الصادقة. وإن ما لقيته من شعب مصر، ومن شعوب المشرق العربي عامة، من إكرام وتبجيل، لَمرتسم في نفسي، ولن يمحي أثره مهْما تقلبت الأحوال. وإن ذلك لَدَين يضاف إلى واجبي، كعربي، فيُملي عليّ أن أفعل كل ما في وسعي لأجنب الشعوب العربية مغبة الانقسام والتناحر، في ظروف هم فيها أحوج ما يكونون إلى التكاتف والتضامن من أجل العمل الإيجابي».

واضاف بورقيبة « لم أستغرب ما ذهبت إليه بعض الصحف في بعض الأقطار العربية، من استنكار ، بقدر ما استغربت ما بدر من بعض الأوساط المسؤولة في القاهرة والحال أننا متفقان في الجوهر، كما تبيّن لي ذلك من خلال محادثاتنا الكثيرة عن قضية فلسطين.»

ولفت بورقيبة الى« نحن جميعاً متفقون على أنه من المستحيل، في الظروف الراهنة، أن تشن الدول العربية حرباً على إسرائيل لتحرير فلسطين، وإرجاعها إلى أهلها وأصحابها.

وأذكّركم، في هذا الصدد، بمداولات اجتماعَي القاهرة والإسكندرية. ولست أعتقد أن في تأكيد ذلك إفشاء لسر ما. ويتعذر على الدول العربية القيام بأي عملية هجومية، في الوقت الحاضر، لسببين: أولهما أنها غير متأهبة لمواجهة الحرب، ولا قابلة لمبدأ تسلل عصابات المقاومين من أبناء فلسطين.

والثاني أن الوضع الدولي يحُول، أيضاً، دون ذلك، لاجتماع الشقين، الغربي والشرقي، في الأمم المتحدة على المحافظة على السلم، واستعدادهما لردع أي محاولة، تهدف إلى تغيير الوضع الحالي، بالعنف، في هذه المنطقة.» وختم بورقيبة رسالته برغبته لعقد اجتماع مع عبد الناصر ، في التاريخ والمكان، اللذين يمكن الاتفاق عليهما.

حدث في أريحا عام 65

في مثل هذا اليوم من العام 1965 وصل الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة إلى أريحا التي زار فيها مخيمات اللاجئين الفلسطينيين ملقيا فيهم خطابا حماسيا ، شكل مفصلا تاريخيا في تحديد علاقة بورقيبة بالمشرق العربي.

ورفع من حدة الجدل الذي أثاره الرجل وأفكاره لا في تونس وحدها بل في العالمين العربي والإسلامي ، وهو الأمر الذي لخصه الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل بالقول في مقال بصحيفة الأهرام القاهرية « أراحه الله مما يعانى.. وأراح الله معه كل الذين يضربون رؤوسهم فى الصخر، ويعذبون أنفسهم، لأن الجماهير العربية ترفض تصديقهم فى كل ما يروجون له من دعاوى. » .

وبعد أربعة واربعين عاما على هذا التاريخ يستذكر التونسيون ومعهم الأشقاء الفلسطينيون وشريحة واسعة من العرب هذا الخطاب ، دون تنزيله في الظروف التاريخية التي كانت سائدة في حينه ومن دون نفض الغبار الذي علا وغذته الحسابات السياسية القطرية لهذا الطرف أو ذاك .

والتذكير بخطاب بورقيبة ومشروعه لحل القضية الفلسطينية ليس من قبيل لوم طرف بعينه بقدر ما هي حلقة في مسلسل الصراع العربي الإسرائيلي المريرة التي لا يزال فيها نزيف الجرح الفلسطيني متدفقا ، فبورقيبة قد رحل في العام 2000 بعد أن إستقبل بنفسه القيادة الفلسطينية التي وجدت في تونس الملاذ الآمن بعد حصار بيروت العام 82 وهو نفسه الذي إستضاف قيادة فتح وعلى رأسها الزعيم الراحل ياسر عرفات وقدم لهم من تونس دعما يليق بكفاحهم وإطارا دفع لاعتراف الولايات المتحدة الأميركية بمنظمة التحرير الفلسطينية وأجرت معها حوارا مباشرا في العاصمة التونسية .

وهي أي المنظمة هي التي طالبت إثر الخطاب بمعاقبة بورقيبة وطرده وتونس من الجامعة العربية ، ومع ذلك رحل بورقيبة مؤمنا بأن حل قضية فلسطين لن يكون إلا بأيدي الفلسطينيين أنفسهم ، وهو ما تثبته الوقائع والأحداث يوما بعد يوم ، ولأن بورقيبة من مدرسة عقلانية صاغتها الفلسفة السياسية في فترة مابين الحربين حينما كان طالبا في الصربون.

فإن نظرته اصطدمت مع رؤية مشرقية تغلب العاطفة على العقل وهو المنطق الذي لا يستقيم في حالة الصراع العربي الإسرائيلي الخاضع لمنطق القوة الغاشمة لا لقوة منطق الحق بقي ، أن يظل الخطاب وما رافقه من ردود افعال بلغت حدود التشنج محطة يمكن من خلالها إستيعاب الدروس ولو بعد 44 عاما ولو تغيرت المعطيات ولو تغيرت الخارطة الفلسطينية وانقسم اصحاب القضية على أنفسهم ، فالفلسطينيون هم أنفسهم ذاك الشعب العظيم الصامد وإن غابت عنهم القيادة التاريخية والقاهرة هي نفسها الموئل والملاذ الذي يبقى سندا للقضية وأصحابها وإن تغيب عنها جمال عبد الناصر.

محمد الحناشي

mohannachi@gmail.com

Email