المنظومة التربوية في الجزائر بين الاصلاح والصراع الايديولوجي

ت + ت - الحجم الطبيعي

بيان الاربعاء: حين أعلن عبد العزيز بوتفليقة الرئيس الجزائري بأن النظام التربوي سيكون من بين القطاعات الأولى التي يزحف عليها الإصلاح، رحبت مختلف الأوساط السياسية والفكرية في البلاد وتحركت لتقديم مساهمتها في تحقيق المسعى. فالجميع يدرك أن أربعين سنة من الجهد وهي عمر المدرسة الجزائرية المستقلة تحتاج إلى وقفة يمكن من خلالها تجديد النفس وبعث منظومة يتفق الجميع بأنها تأثرت بالوهن الذي أصاب مختلف مناحي الحياة في المجتمع خاصة في العقد الأخير، من إطارها العام حتى أبسط فروعها. وتبعا لهذا الاهتمام انطلقت حملة واسعة شاركت فيها كافة الاتجاهات والحساسيات لاحتلال مواقع أمامية في تحديد مجريات الإصلاح إن على صعيد الشكل أو المحتوى. ذلك أن المدرسة كانت دائما محل صراع بين أقطاب سياسية وإيديولوجية لطالما نشطت الساحة الفكرية منذ عقود. وكان كل طرف يريد التأثير في قرار الرئيس للخروج بـ «إصلاح» يساير توجهاته وقناعاته. وبمجرد الإعلان عن التركيبة البشرية لـ «اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية» أطلقت تيارات مؤثرة في المجتمع صفارات إنذار وحذرت مما اعتبرته «انزلاقا خطيرا باتجاه علمانية المدرسة وفرنستها والسير باتجاه انسلاخها عن محيطها وانتمائها الحضاري العربي الإسلامي» على حد ما جاء في بيان وقعته شخصيات بارزة بعد ندوة نظمتها بمدينة قسنطينة معقل رائد النهضة الجزائرية في العصر الحديث الشيخ عبد الحميد بن باديس، كان من بينها قادة الأحزاب السياسية الإسلامية ووزراء سابقون وضباط متقاعدون. وإطارات شغلت مناصب سامية في التعليم و وزارة التربية. وما زاد من مخاوف هؤلاء أن الرئيس بوتفليقة اعلن الالتزام مسبقا بالتوصيات التي ستصدر عن اللجنة مهما كان مضمونها، لثقته في أنها ستتجه بالنظام التعليمي في الجزائر إلى ما يجعله يلحق بركب التطور الذي تشهده البلدان المتقدمة. ووسط معركة حامية لم يعرف بعد مصيرها ومن سيكون المنتصر فيها، فتح «بيان الاربعاء» الباب أمام كوكبة من الإطارات الجزائرية للحديث في الموضوع عبر هذه الندوة التي أعدت بالجزائر وشارك فيها: ـ الدكتور أبو بكر بن بوزيد وزير التربية الوطنية ـ مصطفى بن علاق رئيس لجنة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي والشئون الدينية في البرلمان ـ الدكتورة مسعودة يحياوي: عضو اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية ورئيسة قسم التاريخ بجامعة الجزائر ـ عبد الرحمن شيبان وزير متقاعد ومفتش عام سابق في وزارة التربية ـ عبد القادر فضيل مفتش سابق بوزارة التربية وأحد بناة المدرسة الأساسية ـ الدكتور بوعبد الله غلام الله وزير الشئون الدينية حاليا ومدير مركزي بوزارة التربية سابقا ـ الدكتور علي بن محمد وزير التربية سابقا. وطرحنا على المشاركين مجموعة من الأسئلة تتعلق بمسيرة أربعين عاما من عمر المدرسة الجزائرية بعد الاستقلال. والدوافع التي استدعت الإصلاح الذي قرره الرئيس بوتفليقة وروح الإصلاح الجاري إعداده والصراعات القائمة وطبيعتها هل هي مهنية تربوية بيداغوجية أم سياسية فكرية إيديولوجية وأسئلة أخرى وسط المداخلات. ــ أبو بكر بن بوزيد وزير التربية الوطنية: يسرني في البداية أن أشكر جريدة «البيان» كثيرا على اهتمامها بما يجري في الجزائر وتخصيصها هذا الحيز للجهود المبذولة والاجتهادات الخاصة بموضوع إصلاح المنظومة التربوية. وقبل أن أخوض في مسألة الإصلاح الذي نحن بصدده لا بد من التذكير ونحن على أبواب الذكرى الأربعين للاستقلال وإعلان الجمهورية بأن أكثر من 90 بالمئة من الجزائريين كانوا لا يعرفون طريق المدارس إبان الفترة الاستعمارية. وبعد الاستقلال كان في مقدمة الاهتمامات والمشاريع تمكين أطفال الجزائر من التعليم وبناء الأجيال الصاعدة على أسس جديدة. واليوم أصبح عدد التلاميذ في المدارس الأساسية والثانوية أكثر من ثمانية ملايين تلميذ يشرف عليهم أكثر من نصف مليون مدرس وإداري. وتحتضنهم 23 ألف مدرسة منها 1500 خاصة بالتعليم الثانوي. ومؤسسات التعليم اليوم موجودة على مستوى كل بلديات القطر وفي جميع القرى وحتى التجمعات السكانية البسيطة تتمتع بمدارسها الخاصة. ولا توجد منطقة في الجزائر اليوم لا يستطيع أطفالها الالتحاق بالمدرسة. ويمكن القول إننا وصلنا إلى سياسة وطنية تأخذ بالاعتبار جميع الحاجات فيما يخص التكوين للجميع. وأقول إن تراكم أربعين سنة من الجهد أثمر نتائج كبيرة. وحدثت تحولات كبيرة في المدرسة والمجتمع فجميع الدروس تقدم اليوم باللغة العربية وجميع الإطارات جزائرية وانتهينا من عمليتي التعريب والجزأرة في بداية التسعينيات. وكانت المدرسة الجزائرية تسير وفق الواقع الاقتصادي والسياسي الذي مرت به البلاد في العقود الأربعة الماضية، حيث غدت ديمقراطية التعليم ومجانيته ثم الزاميته واقعا معاشا. لكن الجديد أن هذا العالم المعولم إن صح التعبير في كل ميادين الاقتصاد والمال حمل اتجاهات التغيير في القطاعات التربوية والثقافية. لذلك وجب علينا أن نستجيب لهذا الوضع الجديد بإصلاحات تتماشى ومعطيات العصر. نحن في الجزائر اليوم كسبنا معركة كبيرة في ميدان التعليم هي شموليته لجميع الفئات ونظل نعزز التكوين للجميع لكن الجانب الكمي وحده لم يعد كافيا لتقييم نجاحنا بل لابد من الاهتمام أكثر بالجانب النوعي للتعليم. ونوعية التعليم تنطلق من معطيات جديدة تعيشها الجزائر نتيجة التحولات الكبرى على الصعيد العالمي. فإذا كانت مهمة إيجاد منصب عمل أمرا سهلا في الجزائر خلال العقود الماضية كون الدولة تضمن الشغل للجميع، فإن الوضع قد اختلف اليوم ولابد من جهود مضنية لإيجاد شغل... ومن هذا المنطق المفروض في الواقع دخلنا مرحلة جديدة هي إحداث إصلاح شامل في المنظومة التربوية بأهداف أولها ضمان مقعد مدرسي لكل طفل جزائري في سن الدراسة مع ضمان جميع الأسباب التي توفر تعليما نوعيا. وثانيها الحفاظ على الثوابت التي ظلت تنير سبيل المدرسة الجزائرية ومنها على الخصوص تكريس اللغة العربية كلغة تعليم أولى في جميع المستويات والمساهمة في تطويرها بالوسائل العلمية واستغلال أحدث التكنولوجيات في التعليم بالعربية. بالإضافة إلى الاستمرار في تعليم مواد التربية الإسلامية في جميع المستويات. وأود أن أذكر هنا أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عمل منذ توليه الرئاسة في 15 أبريل 1999 على كسر الطابوهات وعمل على إظهار السلبيات والبحث عن الجوانب التي من شأنها إدخال إصلاحات عميقة على المنظومة التربوية. وبهذا الصدد فإنه تقرر تعزيز مكانة تدريس اللغات الأجنبية في النظام التعليمي الجزائري سواء للتحكم فيها كلغات حية أو باعتمادها لغات تدريس في المواد العلمية والتكنولوجية خصوصا وهذا يمكن الطالب من الاطلاع على المعلومات والمعارف من مصادرها الأصلية وفي وقت اكتشافها وهو ما يسمح بتطوير ملكاته بصفة سليمة.وسيشمل الإصلاح كذلك تكوين الإطارات والأساتذة سواء خلال مراحل إعدادهم حين يكونون طلابا أو أثناء الخدمة. وسيشترط في معلم المدرسة الابتدائية أن يكون متخرجا من معهد جامعي عال مع تكوين متخصص. وهذا النظام لم يسبق العمل به خلال أربعين سنة من قيام النظام التربوي الجزائري. بمعنى أن القبول في سلك التعليم يكون على أساس مقاييس عالية النوعية.والى جانب هذه المسائل كلها سيحدث الإصلاح ثورة كاملة في المناهج وستغير البرامج تماما بتوجيهها بحسب معطيات موجودة في الواقع. تغييرات وأهداف وسنحدث تغييرات عميقة على الكتاب المدرسي ونضمن ثلاثة أهداف مترابطة: ـ أن يكون الكتاب متوفرا بما فيه الكفاية. ـ أن يكون بنوعية عالية وبنزعة متصلة بالحياة والواقع. ـ أن تكون أسعاره مقبولة ليستفيد منه الجميع. وهذا بلا شك يستدعي مجهودا كبيرا وحشد طاقات إضافية لتحقيق الغرض. لذلك فإن قانون المطبوعات الجديد الصادر عام 2000 يفتح الباب على مصراعيه للخواص الجزائريين والأجانب للمساهمة في صناعة الكتاب المدرسي وهو ما لم يكن متاحا من قبل. وفي إطار توسيع مجال استخدام التكنولوجيا في المدرسة شرعنا في مخطط شامل لتعميم الإعلام الآلي على جميع مدارس القطر. وسوف تكون مجهزة كلها بالكمبيوتر في غضون السنوات الخمس المقبلة. وأذكر هنا أننا جهزنا هذا العام 300 مدرسة ثانوية بالإعلام الآلي وأوصلناها بشبكة الانترنت وسنكمل المشوار لتحقيق المشروع كاملا قبل الآجال المحددة نظريا ونعمل لتغطية حاجة 1500 مدرسة ثانوية من التجهيزات والانخراط الواسع في شبكة الانترنت قبل نهاية السنة الدراسية المقبلة. ومن الجوانب المعنية بالإصلاح أيضا نظام الامتحانات خاصة شهادة البكالوريا باعتبارها محطة التقييم العامة لتحصيل التلميذ خلال اثنتي عشرة سنة وهي أيضا الرخصة التي تسمح له بمزاولة التعليم العالي وستشهد فروع البكالوريا بموجب النظام الجديد تقليصا ملحوظا وستقتصر على أربعة فروع فقط هي علوم الطبيعة والحياة والعلوم الدقيقة والتكنولوجيا والعلوم الإنسانية. وسينطلق بموازاة ذلك إصلاح كامل للتعليم العالي والتكوين المهني. ومن أهم أركان إصلاح المنظومة التربوية تحسين الوضع الاجتماعي والمهني للأستاذ والمعلم في جميع المستويات وبدون حل المشاكل الكبيرة التي يعاني منها سلك الأساتذة لا يمكن تنفيذ أي من بنود الإصلاح ولا يمكنها أن تثمر مهما كانت من الناحية النظرية جيدة. هذا الذي أسرده الآن هو مجرد خطوط عريضة لعملية الإصلاح الشامل الذي سيدخل تدريجيا على المنظومة التربوية في جميع جوانبها وقد اشتغلت اللجنة الوطنية مئات الساعات حول الملف وخرجت بتقرير شامل تتم دراسته ومعالجته الآن على المستويات الرسمية المختلفة وقد عقد مجلس الحكومة بهذا الصدد خمسة اجتماعات وأنهى أشغاله حول الملف ويبقى أن يدرسه مجلس الوزراء ويصادق عليه ليصبح ساري المفعول وأتوقع أن يكون ذلك قريبا. مع كل هذه المزايا التي تقولون إن الإصلاح الجاري تحضيره يحملها للمنظومة التربوية فإن ثمة أطرافا كثيرة من بينها إطارات سامية سايرت تطور المدرسة الجزائرية منذ عقود أطلقت تحفظات وتخوفات من هذا المسعى واعتبرته غريبا عن عقلية وعقيدة التلميذ الجزائري. ما تعليقكم؟ ــ إن الذي لوث النقاش هو جر المدرسة الى المعترك السياسي. والذي أوضحناه في هذا الملف هو أن تظل المدرسة بعيدة عن الخصومات والصراعات وأن تسمو فوق ذلك كله باعتبارها ملكا مشتركا للجميع. فهي ليست ملكا للحكومة ولا لوزير معين أو لتيار وتنظيم معين. هي للشعب وللجزائر. فالسياسات والتنظيمات تظهر وتزول أما المدرسة فباقية كما هو باق الشعب الجزائري. ومهما كانت الاختلافات السياسية والأيديولوجية بين الرجال فإن أولادهم يلتقون في المدرسة حول برنامج واحد ولهدف واحد هو تحصيل العلم. ولا يعقل أن يتصور كل طرف المدرسة كما يريدها لأننا في هذه الحال سنكون بلا مدرسة. وفي تقديري فإن معظم هؤلاء المتخوفين ينطلقون من إشاعات وليس لديهم معلومات كافية حول الإصلاح ومحتواه وأهدافه والآفاق التي يفتحها لتطور المدرسة الجزائرية. وتخوفاتهم هي صرف ردود فعل على تلك الإشاعات. هناك من ينطلق في تخوفه مما يقال بأن المدرسة بعد الشروع في العمل ببنود الإصلاح ستستغني عن تدريس مادة التربية الإسلامية. أود أن أوضح بأن التربية الإسلامية ستظل مادة أساسية في البرامج الدراسية وكانت تدرس ابتداء من السنة الثالثة لكن الإصلاح جعل منها مادة مقررة ابتداء من السنة الأولى. وكانت تدرس من قبل معلمي المواد الأخرى لكن بموجب النظام الجديد سيعين أساتذة مختصون لهذا الغرض متخرجون من المعاهد الخاصة بعلوم الدين والشريعة. فأي خطر إذن يتهدد عقلية وعقيدة التلميذ الجزائري؟ وأؤكد أن اللغة العربية تبقى دائما هي لغة التدريس الرئيسية فمم يخاف هؤلاء دعاة الأصالة؟ إننا ندرس الأطفال تعاليم الإسلام واللغة العربية والتاريخ لكن هل لأننا نفعل ذلك يجب أن نستغني عن دراسة اللغات الأجنبية في مختلف مستويات التعليم أو نضع عليها قيودا تمنع التلاميذ من التحكم فيها. إن الاتصال بالعالم الخارجي مرهون بإتقان تلك اللغات واستخدام التكنولوجيا أيضا لايمكن أن يتفوق فيه من تقتصر معرفتهم على العربية وحدها مهما كان مستواهم وقدرة تخيلهم. ومع أن الادعاءات والإشاعات شغلت حيزا كبيرا من ساحة النقاش حول موضوع إصلاح المنظومة التربوية في أوساط عديدة فإنني متيقن بأن الأستاذ الجزائري عندما يطلع على محتوى الإصلاح وعندما يشرع في العمل به سيجد نفسه منسجما ومتناغما معه وسيرتاح ويكون أداؤه أفضل. وهذا لعمري واحد من أهم أركان الإصلاح الذي نقوم به. وبدون هذا سنتأخر بلا شك عن هذا الركب الذي يسير بسرعة نحو الجديد. اخراج المعلم من دائرة الفقر ـ مصطفى بن علاق.. كيف ترى بداية الاصلاح؟ ــ إن المنظومة التربوية في الجزائر قطعت خطوات عملاقة من حيث التغطية و التمدرس وفسح المجال لكل الجزائريين والجزائريات للاستفادة من التعليم و وصلت مخصصات قطاع التربية في ميزانيتها إلى ما بين 30 و 33 بالمئة من المجموع الكلي للنفقات ترجمت بتواجد الهياكل المدرسية في كل مكان من ربوع هذا الوطن الشاسع في حين قاربت نسبة المتمدرسين التغطية الشاملة أحيانا بل أكثر من هذا لم نكتف بديمقراطية التعليم وتعميمه بل وإلزاميته مما يؤكد على الجهد المبذول منذ الاستقلال وعلى غرار وضع المجتمع الناشئ تعرضت لعدة مراحل من التعليم المفرنس الموروث إلى المزدوج ثم المعرب، والوصول إلى الجزأرة الاكتفاء الذاتي من الكوادر الجزائريين بعدما كنا نستعين بأساتذة ومربين من البلاد العربية وغيرها لتصبح المدرسة اليوم جزائرية 100%، لذلك أقول من حيث الكم انه بذلت جهود كبيرة في مختلف الميادين للاستجابة للطلب ويجلس اليوم على مقاعد الدراسة 30 بالمئة من السكان وهو ما يمثل ثلث الجزائريين تقريبا، أما من الناحية النوعية بما أن المدرسة انعكاس للمجتمع فلقد عرفت منذ أواسط الثمانينيات نقصا في الإمكانيات مع بداية الأزمة الاقتصادية انعكست بالخصوص على نوعية التعليم. وبالمقارنة مع الدول المجاورة لنا فالمدرسة الجزائرية حققت هدف الجزائريين الأسمى في توفير الفرص لكل جزائري بالتعليم و شملت العملية حتى البدو الرحل في مراحل معينة و العدد الهائل من التلاميذ الذي يقارب ثمانية ملايين و العدد الهائل من المنشئات التربوية في حد ذاته إنجاز كبير. ولقد شرعت الجزائر في تجربة رائدة مع بداية الثمانينيات هي المدرسة الأساسية لكن للأسف قابلت انطلاقتها ظروف صعبة أثرت فيها كثيرا لاسيما ما تعلق بنقص الموارد. والنمو الديمغرافي السريع فعانى جراء ذلك التلميذ والمعلم معا من ركود أساليب و طرائق التدريس والوسائل المدعمة. والعملية التربوية كلها بما فيها البحث العلمي ظلت في حاجة للتطوير و التكييف مع المستجدات في المجتمع. عموما أظن أن حجر الزاوية في المدرسة هو المعلم الملزم بالتكيف والتلاؤم مع تطور المعارف المستمرة وهو ما لم يكن متاحا له بفعل فقدانه لمكانته الاجتماعية وتدحرجه إلى دائرة الفقر. والمدرسة كانت بحاجة لاهتمام دائم بالعناصر التي تتكون منها من تلاميذ ومعلمين ومحيط ووسائل وأدوات ومناهج التعليم وهو ما لم يتوفر بالقدر الكافي أيضا في فترة من الفترات وربما إمكانيات البلاد في حد ذاتها لم تكن تسمح بالتكفل التام بهذا العدد الهائل من التلاميذ والطلبة والمدرسين. خلال السنوات الأولى من الاستقلال كانت هناك إرادة قوية وكان هناك دفع حقيقي نتيجة لامتداد الروح الوطنية استطاعت المدرسة الجزائرية بفضلها أن تحقق نتائج باهرة تماما كمثل المعاهد الإسلامية والمدارس الخاصة في خدمة التعريب وتكوين الكبار و قدمت إطارات كفئة لمختلف القطاعات في مختلف الميادين. وأؤكد أن ما أعنيه أن المدرسة لم تعرف البتة الإخفاق لكننا غير راضين على المردود في جانبه النوعي وإن كنا متفهمين بعض الأسباب الموضوعية وكان من الممكن تحسين المردود أكثر. ومن بين الأسئلة التي رددها الكثيرون عندما قرر الرئيس بوتفليقة فتح ملف التعليم ودعا إلى إحداث التغيير هي: ـ هل هناك ضرورة لإصلاح المنظومة التعليمية الآن، وما الدافع لذلك؟ ــ أقول هنا إن الرئيس مخول دستوريا لفتح الملفات الكبرى واهتمامه الخاص بالملف أسلوب حضاري لإعطاء الأهمية لقطاع التربية ويعكس الانشغال بالحاضر والاهتمام بالمستقبل والمبادرة نثمنها وبخصوص الإصلاح أنا أؤمن بالإصلاح المستمر وأظن أنه نتيجة فترة الركود التي فقد فيها المعلم الكثير من مكانته الاجتماعية وثقته جعلت الإصلاح حتميا ومطلبا يحظى بإجماع من مختلف شرائح المجتمع والطبقة السياسية وإن اختلفت الرؤى والأهداف المتوخاة منها. لقد حصل الإجماع إذن بأن المنظومة تحتاج لنوع من الترميم وإعادة النظر والاهتمام غير أن نتائج عمل اللجنة المكلفة بالإصلاح لا تعد مشروعا كاملا والموضوع عرف الكثير من المزايدات والنتائج التي توصلت إليها اللجنة تساعد في بلورة بعض الجوانب ولكن لا يمكن اعتمادها كما هي في مسار التغيير المطلوب. والإصلاحات في تصوري ضرورة متفق عليها وليست مجرد تجسيد لإجراء فوقي قررته القيادة ولكنها إن لم تعن بحجر الزاوية وأعني به المعلم والأستاذ لا يمكنها الذهاب بعيدا، والقائمون على الإصلاح يجب أن يضعوا نصب أعينهم تحسين حالة المعلم ومردوده من خلال الاهتمام بوضعه الاجتماعي ومستواه التكويني وأدوات الاتصال بتكوينه تكوينا مستمرا وتسليحه بأدوات عصرية تتجاوب مع التطور الذي يشهده العالم، ولابد كذلك من إصلاح وتطوير البرامج من حيث نوعية التدريس، الحجم الساعي و جوانب أخرى لا تهمل الجو المناسب من مخابر وورشات وغيرها. ومقترحات الإصلاح سوف لن تطرح إعادة النظر في المبادئ الأساسية التي يستند إليها النظام التربوي في الجزائر خاصة تعميم ومجانية التعليم بل تتمحور حول الجوانب المشكلة والمكونة للعملية التعليمية وستتجه المنظومة التربوية أكثر فاكثر لتصبح بين أيدي أخصائيين لا يتأثرون بالتقلبات السياسية و حتى الاقتراحات يجب أن لا أن تكون أدوات تنفيذها تعديل للمراسيم فقط بل يجب توسيع دائرة الاستشارة للحكومة ثم المجلس الشعبي الوطني «البرلمان». ـ لكن يبدو أن ثمة خلافات حادة في جميع المستويات حول مسائل جوهرية في الإصلاح، فمنهم من يرى أن عمل اللجنة منهيا كون الرئيس بوتفليقة وعد بتنفيذ توصياتها حتى قبل انتهائها من التقرير ومنهم من يعتقد أن الأمر يحتاج الى مزيد من التروي والبحث فما الذي جرى بالضبط؟ ــ أقول كتصور عام ان الخلاف الوحيد المطروح هو لغة التدريس وخاصة للمواد العلمية في التعليم الثانوي وبعض المعاهد المتخصصة بالجامعة، والاختلاف أساسا بين تيارين نتيجة اختلاف مشاربهما ومرجعياتهما في النظر إلى العملية التعليمية ككل. والصراع ثقافي موجود يجب الاعتراف به بين اللغة الفرنسية كموروث استعماري والمكونين باللغة العربية ومن الضروري التأكيد اليوم أنه ليس من حقنا نحن الذين يمكننا التعامل مع هذا الواقع والتعامل مع اللغة الفرنسية كلغة مستعملة أن نربط مصير الأجيال المقبلة باللغة الفرنسية خاصة ونحن نعيش العولمة والتفتح على كل اللغات و خاصة الإنجليزية لغة العلم ولغة المال اللغة السائدة التي تنافس الفرنسية حتى في عقر دارها وليس العيب اليوم أن نستعمل الأدوات اللغوية الفرنسية لكن العيب هو ربط مصير الأجيال بذلك. وأرى أن نجاح الإصلاح أيضا يستدعي ربط حلقات المراحل التعليمية. ففي السابق أنجزنا إصلاحا للتعليم الثانوي قبل الأساسي و هو ما أعتبره خطأ في البناء لابد أن يتم على شكل هرم من الطور الأول فالثاني فالثالث فالتعليم الثانوي ثم الجامعة، ليكون هناك تصور شامل من الأساس إلى الأعلى أضف إلى ذلك التأطير في بعض التخصصات ثم سوء التعامل لأقطاب بعض الجامعات يجعلني لا أحمل المسئولية للأولياء أكثر مما أحملها لكل المهتمين بهذا القطاع الحيوي، ليس من العيب التدريس باللغة الأجنبية في الجامعات لكن نتيجة لأهداف مسبقة التركيز على اللغة الفرنسية. وأرى أنه من الضروري إحلال الإنجليزية محل الفرنسية في فروع العلوم والتكنولوجيا بالجامعات. وإذا كانت الغاية هي التحصيل العلمي يمكن أن ندرس بأي لغة، لكن هذا الموضوع يحتاج إلى كثير من النقاش وإشراك كل الأطراف الفاعلة وحتى الطلبة أنفسهم. وربما العقدة الوحيدة نتيجة ضعف الإمكانيات اللجوء نحو الأسهل والأقرب إضافة لأسباب أخرى ولكن هل العلاج هو اللغة الفرنسية هنا نضع علامة استفهام؟. وحول ما إذا كان الإصلاح الجاري إعداده من شأنه المساهمة في رفع المستوى وتكوين إطارات أكثر كفاءة في المستقبل، أود أن أقول إن العملية في كثير من جوانبها من شأنها أن تحسن حال المدرسة الجزائرية ويمكن أن توفر مناخا جديدا يساهم في ترقية المعارف لدى الطالب في جميع المستويات ويعطي أدوات جديدة للأستاذ لأداء وظيفته على أحسن وجه. وبالمحصلة سيكون المردود بالتأكيد أحسن مما كان قائما حتى الآن. لكن مع هذا أود أن أقول ومن موقعي كمرب سابق ومهتم بالموضوع بأن ما أنجزه المجلس الأعلى للتربية الذي كان قائما وحله الرئيس قبل عامين أكثر شمولية و أكثر دقة مما قدمته اللجنة المكلفة بإعداد مشروع إصلاح المنظومة التربوية. وكان بالإمكان إضافة مجهود القائمين على ذلك المجلس لتقديم حلول لكثير من المشكلات التي يعاني منها القطاع فالمجلس المذكور حسب تركيبته البشرية كان فيه الكثير من المختصين والكفاءات الذين يتواجد بعضهم في لجنة الإصلاح وأقول مجددا من حيث الشمولية و توسيع الاهتمام بالمنظومة كان هناك مجهود جبار من المجلس لكن للأسف لم يتم استغلاله. مقترحات اللجنة ليست نهائية بطبيعة الحال عرضت على رئيس الجمهورية و يجب الاعتراف أنها قامت بمجهود في بعض الجوانب و نحن نختلف معها في جوانب أخرى و بإمكان عملها تحسين مردود المنظومة التربوية و تطويرها. وأعتقد أن عملها يجب عرضه على أخصائيين ولجان أخرى تشكلها الحكومة تحاول الترجمة التدريجية لبعض المقترحات القابلة للتجسيد على الواقع مرحليا. وما من شك أنه لا يمكن استيراد إصلاح أي كان من أي بلد كان لا يمكن نجاح أي إصلاح إذا لم يكن نابعا من الواقع الحقيقي وذلك يتطلب الاهتمام ببعض القضايا الملحة التي يطرحها المجتمع وتساهم في إحداث الاستقرار من المنظور السياسي بالتمسك بالهوية الوطنية والشخصية الوطنية كذلك. ومهما يكن من أمر فإن أولوية الأولويات في تقديري هي الاهتمام بالمعلم، لا يمكن أن يكون هناك إصلاح بدون المعلم الذي سيقوم بالإصلاح نفسه، بغض النظر عن القرارات الإصلاحية من ذا الذي سيجسدها فهل يجسده رجل مغبون، رجل مظلوم، أكرر أن المعلم وصل إلى حد الفقر فكيف تنتظر منه أن يقدم شيئا ما، إذن يجب الاهتمام به اجتماعيا وتسليحه بالإمكانيات والأدوات العلمية والوسائل اللازمة لإنجاز مهمته فهل سنتجه إلى استيراد جيوش المعلمين لإصلاح منظومتنا التربوية، أعتقد أن الإصلاح يقوم به المعلم والمعلم متواجد بالميدان والأجدر أن يكون محل الاهتمام و تحسين الأوضاع. خلل سياسة التعريب ـ الدكتورة مسعودة يحياوي عضو اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية، اين يكمن الخلل هل هو في سياسة التعريب نفسها ام في تطبيقها؟ ــ الخلل يكمن في تطبيق سياسة التعريب على أسس عاطفية... بلدان عربية تخلصت من معلمين محافظين وبعثيين ورمت بهم الى المدرسة الجزائرية» انطلاقنا في تحليلنا لوضع المنظومة التربوية في الجزائر والانطلاق في حملة إصلاح شامل من بعدين متكاملين أولهما كوني مدرسة وباحثة في الميدان وثانيهما كوني عضوا في اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية التي كلفني الرئيس بوتفليقة قبل نحو عامين بدراسة الملف وتقديم توصيات تكون قاعدة للإصلاح المنشود: «إن وجود لجنة خاصة لإصلاح المنظومة التربوية الجزائرية يعني إقرار بوجود خلل ونقص يراد إصلاحه، وأرى أن الخلل يكمن في تطبيق سياسة تعريب غداة الاستقلال كما أثرت على أسس عاطفية بعيدة كل البعد عن الواقعية والتفكير فيما يفيد البلاد مستقبلا. أقول هذا من باب الصراحة مع الذات. وأنا لست بأية حال من الأحوال ضد القرار من حيث المبدأ باعتبار أن الجزائر بلد عربي فهو اختيار سليم وهو الأنسب، بل هو استرجاع وضع طبيعي كان غائبا في فترة الاحتلال الفرنسي. لكنني أعترض على الطريقة التي تمت بها سياسة التعريب، و أرى أن القرار كان متسرعا و اعتمد دون تخطيط مسبق. وأركز هنا على شكل رئيسي، وهو نوعية الأساتذة الذين أسندت إليهم مهمة التعليم في الجزائر، فلا بأس أن نذكر بأن الجزائر أمضت بعد الاستقلال عدة اتفاقيات تعاون في الميدان التربوي مع بلدان عربية شقيقة، وقامت هذه البلدان بإرسال معلمين من اختيارها وخاصة من جمهورية مصر العربية، و تبين فيما بعد أن أغلب هؤلاء المعلمين و الأساتذة كانوا من المحافظين و«البعثيين» و«الإسلاميين» تخلصت منهم بلدانهم بهذه الطريقة أي بإرسالهم إلى الجزائر حيث كانت الحاجة كبيرة لأعداد كبيرة من المدرسين في مختلف المستويات.هذا في وقت غاب فيه تكوين معلمين جزائريين، و لم تعط الفرصة للجزائريين المكونين باللغة الفرنسية لتطوير قدراتهم في اللغة العربية وتحمل مسئولية تأطير المدرسة التي غدت معربة. كان يجب في نظري أن توفر كل الوسائل المادية و البشرية الضرورية قبل انتهاج أية سياسة تعليمية. لهذا أقول ان جميع تراكمات الأخطاء كانت على محور الخطوة الأولى التي كانت خاطئة. وبعد أربعين عاما من العمل وفق هذا النهج جاء وقت التقييم واتخاذ الخطوات اللازمة لإصلاح الوضع. وقد حث رئيس الجمهورية في الخطاب الذي وجهه إلينا عند بداية عمل الفريق المكلف بإعداد خطة الإصلاح على عدة تعليمات وتوصيات، أهمها أن تجتهد اللجنة و جميع أعضائها لبناء مشروع مدرسة جديدة تدخل الجزائر في الألفية الثالثة، وتواكب الأمم المتطورة، وذلك بالاعتماد المكثف على وسائل عصرية وتكنولوجية، وقد ركزنا كثيرا عند تحرير نص المشروع على ترقية المواد الاجتماعية بعدما لاحظنا نقص الوقت المحدد لها، وغياب بعض التخصصات مثل التربية المدنية، التي تربي التلميذ على احترام المجتمع والبيئة التي يعيش فيها، وحتى نهيئه كمواطن صالح لمجتمعه. إن الجزائر عرفت في الخمس عشرة سنة الأخيرة كثافة سكانية كبيرة، وبالتالي ارتفع عدد التلاميذ، مما خلف نقصا في المعلمين، وخاصة في المرحلة الابتدائية، وهو ما فسح المجال لتوظيف مدرسين دون تكوين بيداغوجي، و بلغت نسبة هذا الصنف من المعلمين حوالي 70%، و هو مؤشر ينبئ بالخطر. وعلى هذا الأساس أولينا أهمية خاصة لتكوين المكونين، وخصصت اللجنة أول فصل من فصول المشروع لهذه المسألة، كما اقترحنا أيضا الاستعانة بالأساتذة المتقاعدين بتحفيزهم ماديا بقصد الاستفادة من خبرتهم، وذلك بمنحهم 70% من راتبهم علاوة على منحة التقاعد التي كانوا يتقاضونها. أما بخصوص مراجعة بعض البرامج التي تدرس حاليا، وأعني خاصة التربية الدينية أو الإسلامية، فيجب أن نشير بداية إلى أن هذه المادة لم تسند إلى أساتذة متخصصين ذوي تكوين بيداغوجي،بل فسح المجال لبعض العناصر المتطرفة من جماعات «الإسلام المسيس» إن صح التعبير. ولهذا ركز رئيس اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية على ضرورة تدريس هذه المادة من طرف أساتذة متخرجين من معاهد متخصصة في الشريعة الإسلامية و أصول الدين، أومن مدارس تكوين الأساتذة حيث يراعى الجانب البيداغوجي، على أن تكون طريقة تدريسها سليمة،و ذلك بإجراء تعديل على البرامج المقررة، بحيث تولى أهمية لتدريس القرآن بدلا من تلقين البدع وأحكام الشريعة التي لا يمكن لتلميذ دون العاشرة أن يفهمها و يدرك معناها، بالإضافة إلى غلق المجال أمام من يتطفلون على هذه المادة دون تكوين كاف. والهدف من كل هذه الإجراءات هو السعي من أجل تكوين مواطن صالح يندمج في المجمع وزرع القيم الراقية فيه كحب الوطن وتقديسه، والتركيز أيضا على تلقينه تاريخ الجزائر والحضارات الإنسانية حتى تفتح له نوافذ على العالم. أما عن تدريس اللغات، فقد اقترحت اللجنة مشروعين لهذا العرض، المشروع الأول يقترح إدراج تعليم اللغة الفرنسية كلغة أجنبية أولى في السنة الثالثة من التعليم الابتدائي. واقترح المشروع أيضا الإبقاء على المواد والتخصصات التقنية في الجامعات باللغة الفرنسية «مثل الطب البيولوجيا، التكنولوجيا...» أما المشروع الثاني فيقترح الإنجليزية كلغة أجنبية أولى بدلا من الفرنسية، فيما يقترح المشروع الأول إدراج الإنجليزية في السنة السابعة متوسط، و الواقع أن المشروع الأول يعتبر أكثر تلاؤما مع وضعية التعليم في الجزائر، وهذا مبني على معطيات واقعية تقول أننا نعيش في وسط فرنكوفوني، ولا نملك متخصصين في اللغة الإنجليزية. ونظرا للخلاف الذي عرفته هذه النقطة، فقد تركنا أمر الفصل فيه لرئيس الجمهورية. ـ هناك من يرى أن مشروعكم فارغ ومحتواه الوحيد هو العودة الى الفرنسية كلغة تدريس لا أكثر؟ ــ لا... لا... ليس الأمر بهذه البساطة وهذا التسطيح وبصرف النظر عن اللغة التي يتلقى بها الطالب المعلومات فإن التوجه العام لهذا الإصلاح يصب في مسعى عصرنة المدرسة الجزائرية، وإخراجها من الجمود، فركزنا خاصة على توزيع البرامج، واقترحنا مثلا أن نحصر شعب البكالوريا في أربعة تخصصات فقط «بكالوريا أدبي، علمي، تقني، تكنولوجي»، حتى نوفر لإطاراتنا المستقبلية فرصا في سوق العمل، واجتهدنا كثيرا لنعيد الكرامة و الاعتبار للأساتذة، وخاصة الأستاذ الجامعي، إذ نود أن يكون الأستاذ قبل الوزير، لأن الأستاذ عالم وباحث، والوزير عون دولة. ولذلك طالبنا بوضع قانون خاص بالأستاذ وإخراجه من القطاع الوظيفي العمومي وتحفيزه ببعض الامتيازات مثل إعطائه سنة تفرغ علمي كل سبع سنوات عمل، حتى يفسح له المجال لإثراء معلوماته في جامعات عالمية. أما فيما يخص البحث العلمي فقد فرضنا وجود بعض الهيئات التي تلعب دور الوسيط بين الأستاذ الجامعي والوزارة الوصية على غرار ما يسمى «الوكالة الوطنية لترقية البحث العلمي». ومن أجل تحسين الخدمات الاجتماعية للطلاب ضمنا تقريرنا توصيات بإفساح المجال للخواص قصد الاستثمار في مجال بناء المرافق والهياكل الجامعية «مطاعم، أحياء جامعية». وكذلك رفع قيمة المنح لطلاب الجامعات حتى يتسنى لهم الحصول على أمهات الكتب والمراجع التي أصبح ثمنها اليوم في السوق مرتفعا جدا بعد إلغاء دعم الدولة للكتاب. وأظن أننا عملنا بكل صدق ونزاهة، وقد جاء كل عضو بتجربته وخبراته، ثم أننا قمنا بمعاينة عدة تجارب لبلدان عربية ومسلمة، ودول مجاورة، وحاولنا أن نستعين بتجاربنا في هذا الميدان بما يتلاءم وواقع الجزائر. ورغم الجدال الذي عرفه هذا الملف الحساس، وخاصة منه مسألة اللغات الأجنبية، وتعديل بعض البرامج، إلا أنني لا أجد مبررات للحكم عكس محتواه وأهدافه خاصة إذا علمنا اليوم بوجود أكاديمية فرنسية بمصر، وإذا علمنا أيضا أن دولا عربية شقيقة، كالمغرب وسوريا ولبنان أعادت فتح المدارس الفرنسية، بل وفي دولة مثل تونس يتم التدريس بالفرنسية حتى في مرحلة الثانوي، وذلك تحضيرا للتعليم الجامعي. وعليه أقول إن هذا المشروع يصبو قبل كل شيء إلى ترقية المدرسة الجزائرية ورفع مستوى الطلبة في الجامعات، و تحسين شروط ونوعية البحث العلمي. كما أن المشروع يولي أهمية حتى للتعليم والتكوين المتواصل باستعمال نظام «الإنترنت» الذي سيوصل التعليم إلى المناطق المعزولة. وأظن أن تجسيد روح المشروع بإمكانه أن يُكون لنا مواطنا يحافظ على ثوابت الأمة من أمازيغية وعربية وإسلام، وفي الوقت نفسه يعيش عصره في كنف الاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع، ويعتز بجزائريته، مع تفتحه على العالم. اعتماد الأصالة والتفتح ـ عبدالرحمن شيبان: أود أن أبدأ مداخلتي حول إصلاح المنظومة التربوية الجاري في الجزائر بالإشارة ولو باختصار شديد، إلى مسار هذه المنظومة خلال أربعين عاما. وأقول إن الجزائر عند الاستقلال سنة 1962، لم تكن لديها مدارس وطنية حكومية، ماعدا مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، المنتشرة في كافة أنحاء الوطن، وكان على رأسها معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة. وإنما كل ما هنالك مدارس فرنسية محدودة العدد والمكان. وقليل من المتعلمين فيها لم يتجاوزوا التعليم الابتدائي. أما الذين يصلون إلى التعليم العالي، فهؤلاء يعدون على الأصابع. وبرنامج هذه المدارس استعماري يلقن الأطفال تمجيد المستعمر واحتقار الشخصية الوطنية، وبالطبع ليس فيه مكان لتعليم العربية بحيث كان تعليمها محظورا. وكانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هي المجال الوحيد الذي كافح من أجل نشر اللغة العربية وكسر الحظر الذي فرضته سلطات الاحتلال بتأسيس مدارس يقوم عليها علماء وأساتذة من أتباع الجمعية في مختلف جهات القطر. استقلت الجزائر عام 1962 والحال كما وصفناه، فما كان من السلطة الوطنية إلا أن بادرت بتطبيق سياسة تعوض الشعب الجزائري على ما عاناه من حرمان وما قاساه من تجهيل، فقررت الدولة أولا ديمقراطية التعليم بإنشاء المدارس في كامل التراب الوطني حتى لا يحرم أي طفل من نور العلم، وثانيا قررت مجانية التعليم من الابتدائي إلى العالي، في إطار برنامج تعليمي وطني عصري يشتمل على جميع العلوم والمعارف التي يحتاجها الطالب، مع التمكين من تأصيل الشخصية الوطنية العربية الإسلامية. و التعليم كان بالعربية في بداية الأمر، إلا أن بعض المواد العلمية كالرياضيات، كانت تعلم بالفرنسية، ولكن بصفة تدريجية تم تعريب جميع مواد الدراسة بالعربية، بحيث صار التعليم في الثانويات باللغة العربية. وفي مرحلة تالية، شرع في تعريب العلوم الإنسانية في الجامعات تعريبا كاملا مع مطلع الثمانينيات، ثم بعض المواد العلمية. أما من حيث التفتح على اللغات، فإن الفرنسية صارت تعلم كلغة ثانية، و تليها في الرتبة الإنجليزية، وقد دار نقاش حول موضوع ترتيب هاتين اللغتين، فالبعض لم يعد يرى الفرنسية كلغة العصر ولغة العلوم بشهادة الفرنسيين أنفسهم، وعليه فلا ينبغي تضييع الوقت لتعلم لغة في هذا المستوى، بحيث تقدم اللغة الإنجليزية على الفرنسية في الجزائر لتحتل المرتبة الأولى. وهكذا تمكنت المدرسة الجزائرية من نشر التعليم في أوساط الشعب بنسبة تكاد تكون مئة بالمئة، بحيث تنتقل المدارس في المناطق الجنوبية النائية على ظهور الجمال لتتابع البدو الرحل. وككل عمل بمثل هذه الضخامة، فلا بد أن تطرأ عليه نقائص، وهذا أمر طبيعي، والمطلوب من العاملين في هذا الميدان أن يتابعوه بالتعديل والتحسين والتطوير لينسجم مع مقتضيات العصر، لأن الجمود والتحجر يؤديان إلى الموت والفناء، وهذا يصدق على جميع الدول، وحتى المتقدمة منها. إذن فوجهة الجزائر منذ البداية هي مدرسة أصيلة، متفتحة على العالم، وعليه، فتقييمنا لهذه المدرسة، مع ما أشرت إليه من التطور ومسايرة العصر، نستطيع أن نؤكد أنها تجربة إيجابية، والدليل على ذلك، هذه الجموع من الإطارات و الكفاءات التي تزخر بها البلاد، إلى درجة أن معاهد العالم وجامعاته تضم نخبا من الجزائريين في جميع الميادين، تخرجوا أصلا من المدرسة الجزائرية. وإننا كشعب طموح يسعى دائما إلى الأحسن، فإننا نؤمن بأن مدرستنا ستواصل تحسين برامجها وتطويرها في إطار أصالة وطنية تدعم الشخصية الوطنية. إن الجزائر في حاجة إلى تعليم ينهض على قاعدتين أساسيتين، هما الأصالة المتمثلة في عروبة الجزائر وإسلامها وهدي سلفها الصالح من ناحية والتفتح على العلوم الحديثة التي تنهض بها الشعوب في مختلف المجالات الاقتصادية والصناعية والزراعية من جهة أخرى. و مما يساعد على هذه النهضة الشاملة لمختلف مجالات الحياة، التزود باللغات الأجنبية الحية، فإن تعلم هذه اللغات لا تستغني عنه الدول المتقدمة، وكيف بالشعوب المتخلفة. وقد رعى الإصلاح الديني والاجتماعي في الجزائر، بقيادة الإمام عبد الحميد أبن باديس إلى ضرورة تعلم هذه اللغات منذ فجر النهضة الإصلاحية، فلا يمكن أن يتهم رواد المدرسة الجزائرية القائمة على الأصالة والمعاصرة بأنهم زاهدون في اللغات الأجنبية، فهذا زعم باطل يراد به التضليل لتمكين اللغة الأجنبية الفرنسية من الهيمنة على الحياة الجزائرية العلمية والثقافية و الإدارية.وبكلمة مختصرة، من الواجب أن تعلم اللغات الأجنبية الحية التي تعيننا على كسب أدوات التقدم، لكن شريطة أن يقترن ذلك بإلمام تام باللغة العربية التي يجب أن تبقى هي لغة الشعب والدولة معا. وقد حاول دعاة التغريب والفرنسة منذ فجر الاستقلال أن يجعلوا اللغة العربية لغة للشعب، والفرنسية لغة للدولة. كما حاولوا كذلك أن يجعلوا الإسلام دينا للشعب، ولا تلتزم بآدابه الدولة. ولكن المجلس الوطني التأسيسي وقف وقفة رجل واحد، فتمت المصادقة في الدستور الأول للجزائر مباشرة بعد الاستقلال على أن الإسلام هو دين الدولة، وأن اللغة الوطنية الرسمية إنما هي اللغة العربية. كل تعليم أو تربية لا تراعي الأصلين: الأصالة والمعاصرة، لا تمكن الشعب من تحقيق مطامحه الحياتية والروحية. فالتخلي عن الأصالة انحراف وردة وخيانة لتراثنا الجليل، والإعراض عن مطالب المعاصرة تأخر وضعف ففناء. إن المدرسة الجزائرية فيها جانب حيوي، والتربية الوطنية الآن متوفرة على المطلبين، مطلب الأصالة ومطلب المعاصرة، وإننا لنرجو المزيد في الجدير من هذين العنصرين. فالمطالب تتغير وتتطور حسب مرور الأيام. فالعاقل من يساير عصره في تطوره، ونحن مطالبون بمراجعة برامجنا التعليمية لإدخال التحسينات التي تقتضيها الظروف بصفة دائمة على غرار ما تفعل الدول المتطورة. ـ عبد القادر فضيل مفتش عام للتربية والتعليم: «المدرسة الأساسية لم تخفق لكنها أيضا لم تنجح، والأولوية في الإصلاح للنظم و ليس الخيارات السياسية وتوصيات لجنة الإصلاح تؤدي إلى الانسلاخ وتكوين أجيال بلا انتماء». وأود أولا أن أذكر بأن المنظومة التربوية التي ورثناها غداة الاستقلال لم تكن منظومة جزائرية لا في لغتها ولا في أهدافها ولا في توجهاتها، كانت فرنسية مئة بالمئة وتجاهلت واقع الجزائر بل وشوهت هذا الوقائع. وكان طبيعيا أن تكون من بين أولويات ما بعد الاستقلال تكوين نظام تعليمي جديد منسجم مع الذهنية الجزائرية. وكانت البداية بإدخال اللغة العربية والتربية الإسلامية في البرنامج الدراسي العام وفي سنة 1964 شرعت الجزائر في تعريب السنة الأولى والتوجه نحو بناء نظام تربوي وطني، هذه الإصلاحات أو التغييرات الجزئية بدأت تتسع تدريجيا. وفي عام 1976 اكتملت الشروط فأسسنا لنظام تربوي وطني و منه انبثقت المدرسة الأساسية. إذن نستطيع القول بأن المدرسة الجزائرية لم تولد مع بداية الاستقلال والذي ولد مع بداية الاستقلال هو التوجهات والتفكير المنهجي والاختيارات التي بدأ تجسيدها شيئا فشيئا بدأنا بتعميم وديمقراطية التعليم فمنذ الموسم الأول بدأنا نوسع من طاقة الاستقبال ببناء مؤسسات جديدة و كنا حينها نكون المعلمين في ظروف استعجالية جدا حيث كانوا يوظفون مباشرة أو يمرون بتدريب مدته شهرا أو أقل من ذلك بالإضافة إلى المعلمين الذين لم يتعلموا اللغة إلا في السجون و مع ذلك بدأنا بهم التعليم حيث لم يكن أمامنا خيار آخر. فمعاهد تكوين المعلمين لم تكن تتجاوز الثلاث مدن هي الجزائر و وهران و قسنطينة ثم أحدثنا معاهد المساعدين الذين نكتفي في مستواهم بشهادة الأهلية ثم جاءت المعاهد التكنولوجية لتكوين المعلمين في 1971 وكان همها الأساسي هو تلبية الحاجيات لتحقيق المبدأ الثاني في الخيارات و المتمثل في «جزأرة» المؤطرين و كان الاهتمام واضحا بالجانب الكمي حيث قفزت نسبة الأطفال المقبلين على المدارس من 10 بالمئة إلى 90 بالمئة. وتواصل الجهد الى أن أصبح جميع أطفال الجزائر يجدون مكانا في المدارس وأصبحت العربية التي كانت في البداية تدرس كمجرد لغة بغرض معرفتها هي لغة التدريس الأولى في مختلف المستويات والتخصصات، الآن نجد ان هناك نتائج للاهداف المعلنة. الفرنسية حجر عثرة ـ الدكتور بو عبدالله غلام الله وزير الشئون الدينية حاليا، طرحت فكرة عدم تعريب الجامعة حاليا اذ هو وفقكم لا يفيد في شيء وفي علمنا يجري الاستعداد لإدخال إصلاحات على المنظومة التربوية في الجزائر، ما النقائص المسجلة أو المتراكمة مع السنين التي استدعت هذا التغيير؟ ــ المنظومة التربوية نشاط اجتماعي يتطور مع تطور المجتمع، وتحركية اجتماعية يكون هذا النشاط في وقت ما، قوي ومع تقدم الزمن يتلاشى ولا يعد متأقلما مع متطلبات المجتمع ومستجدات الوضع الراهن، وهذا أمر طبيعي، وهنا نصوص أدبيات المدرسة الأساسية تحتاج الى مراجعة والمراجعة لا تكون بصفة نهائية وإنما بصفة تدريجية، تنمو بصفة حلزونية من خلال تطوير البرامج حتى لا تقع فيها تراكمات. واليوم لا مناص من الإصلاح، إما أن ننمو بعناصر حية تساعدنا على المواجهة وإما الجمود و الأفكار الثابتة وبالتالي تعجز وتتكلس. إن الإصلاح في نظري لا يتم إلا بتوفير المناخ السليم من خلال تطوير الوسائل البيداغوجية، لا وقت لدينا إما أن نتطور و إما أن نموت. إن الإصلاح الشامل الجذري غير ممكن، ولكن هناك سبل عديدة لتحقيق ذلك تدريجيا عن طريق تحسين البرامج و المناهج، ابتكار طرق بيداغوجية قادرة على التوصيل الصحيح، كما أرى أن إدخال عناصر علمية جديدة لم تكن موجودة من قبل كاختيار المواضيع على سبيل المثال لا الحصر، هناك أحداث و مستجدات أفرزها العصر لابد من الاهتمام بها كما أشير إلى أن الإصلاح لابد أن ينمي الفكر لدى الطفل، تفكيرا صحيحا، كما أن التوجه العلمي و الاعتماد على التكنولوجيا على العالم الخارجي. ـ ظهر فريق من الإطارات الجزائرية منهم من كان في قطاع التربية سابقا يعارضون مساعي الرئيس بوتفليقة في الإصلاح بدعوى أن الاتجاه العام للإصلاح قد يعرّض قيم المجتمع إلى هزّات، هل هناك ما يبررّ هذه المخاوف؟ ــ في رأيي أن هذه المخاوف رد فعل طبيعي لأنه كلما كان هناك تغيير صاحبه مقاومة التغيير، وهذه المقاومة هي التي تسمح في جوهرها للإصلاحيين أن يحسبوا ألف حساب قبل أن يحسموا أمورهم، ويفكروا أكثر من مرة في التغيير، وهذا ما حصل معي عندما تم الخلاف حول تسمية المقرر السنوي تربية دينية أو تربية إسلامية.كنت مترددا و كانت لدي مخاوف و لكن عندما شاهدت عن كثب ما برمج للتلاميذ تراجعت و رأيته مقبولا و يغذي احتياجات التلاميذ. وبالنسبة لسؤالكم المتعلق باللغات الأجنبية، أود أن أقول في البداية بأن اللغة الفرنسية في الجزائر تقف حجر عثرة أمام التطور ثقافيا اقتصاديا وصناعيا، وبالنسبة لي فإن تدريس اللغات لدي طموح كبير أن يتكلم الجزائري عدة لغات. ـ ولكن مشروع كهذا هل هو واقعي؟ ــ لا أظن ذلك أمام نسبة الأميين،اللغات الأجنبية، أود أن أقول في البداية بأن اللغة الفرنسية في الجزائر تقف حجر عثرة أمام التطور ثقافيا اقتصاديا وصناعيا، وبالنسبة لي فإن تدريس اللغات لدي طموح كبير أن يتكلم الجزائري عدة لغات. ضـ ولكن مشروع كهذا هل هو واقعي؟ تم لا أظن ذلك أمام نسبة الأميين،دمه، أي نهيئ خريجي المدرسة الأساسية للاستفادة من اللغة الأجنبية في الجامعة، وهنا نلح على أن الطالب الجامعي عندما ينتسب إلى الجامعة يجب أن يكون قادرا على تلقي العلوم بلغتين أجنبيتين على الأقل. أنا مع تعليم اللغات لكن تعليما مفيدا ناجحا، ولكن ما دمنا متشبثين بالّلغة الفرنسية إلى هذا الحد سيكون تطورنا بطيئا. ـ معظم الفروع العلمية والتّكنولوجية في الجامعة بالفرنسية و جميع الفروع تقريبا في التعليم الأساسي و الثانوي بالعربية ؛ويجد الطالب صعوبة للتأقلم مع الجامعة بفعل اختلاف لغة التكوين كيف تنظرون إلى الحل بتعريب شامل للجامعة أم بتكثيف تدريس الفرنسية في المراحل التي قبلها؟ ــ أنا لا أدعو إلى تعريب الجامعة و لا أعتقد أن هذا يفيدنا في شيء، الطالب الجامعي قادر على تلقي المعرفة بلغات كثيرة بشرط أن توجد الكفاءة. فالجامعة الجزائرية اليوم تمر بأزمة إطار و كفاءة، فتصوروا أن التلميذ الذي يدرس في مرحلة الأساسي و الثانوي أكثر من 6 سنوات فرنسية عندما يصل إلى الجامعة هو طالب لا يستوعب و لا يتقن الفرنسية، إذن كل هذه السنوات ذهبت أدراج الريح و ضاعت.. لا بد أن يكون هناك مردود للتعليم. ومع كل ما يقال عن اللجنة الوطنية للإصلاح المنظومة التربوية وعن تشكيلتها، فإنني لا أشك إطلاقا فيها فقد وضعت كل تجاربها و مجهودات سنوات في مناقشة المنظومة التربوية و إثرائها. فلننتظر ماذا ستسفر عنه هذه اللجنة من اقتراحات أؤكد أنها لا تتجسد إلا بإمكانيات جيدة و ثقيلة. ـ الدكتور علي بن محمد وزير التربية سابقا: «الإصلاح بطريقة اللجنة الوطنية غلط وخطر ونكران لمقومات الأمة واستخفاف بأبنائها»، إن ما يحدث اليوم في الجزائر للأسف أمر غريب فقد شكل الرئيس لجنة سماها «اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية» ومنحها مهمة إصلاح المدرسة بجميع مراحلها من الحضانة إلى التعليم العالي. وتشكيلة هذه اللجنة في 90 بالمئة منها عناصر تغريبية مفرنسة اللسان فرنكوفونية الهوى لائكية التوجه، تتنكر بقوة لانتماء الجزائر العربي ـ الإسلامي. وقد انتهت من عملها في اللجنة المذكورة بتقييم يحمل تعريب التعليم منذ 1980 مسئولية ما تسميه «نكبة المنظومة التربوية» وعلى ضوء هذا الاستنتاج قدمت البدائل التي تراها مناسبة لإحداث التغيير باسم الإصلاح. وبودي أن أعطي هنا بعض الأرقام بخصوص هذه المنظومة التربوية التي يرمونها بأشنع النعوت والتهم لتبيان الحقيقة. فلقد كان عدد التلاميذ الجزائريين سنة الاستقلال «1962» قرابة 600 ألف تلميذ في مجموع المراحل الابتدائية والثانوية. وكان هذا العدد يمثل نحو 15 بالمئة من مجموع البنين والبنات الذين كان يتعين أن يكونوا في المدارس. وبلغت نسبة الأمية في البلاد 90 بالمئة من مجموع السكان وكانت عند النساء أكثر من 95 بالمئة. واليوم يصل عدد التلاميذ الى ثمانية ملايين. وفي التعليم العالي لم يكن عدد الطلاب الجزائريين يتجاوز 500 طالب لشعب يبلغ وقتها تسعة ملايين نسمة، و يصل عدد الطلاب اليوم الى 600 ألف طالب. وتركت فرنسا عند خروجها من الجزائر مئة طبيب وصيدلي وعشرة مهندسين وحوالي مئتي حامل لشهادة ليسانس أو ما يعادلها وثلاثة آلاف معلم معظمهم في المدرسة الابتدائية وقليل منهم في المرحلة الإعدادية، أما في الثانوية فعددهم لا يكاد يذكر. ويوجد اليوم في الجزائر أربعون مؤسسة للتعليم العالي ما بين جامعة ومركز جامعي ومعهد عال... ويمكن سرد أرقام كثيرة مما حققته المدرسة الجزائرية من إنجازات... فلو أن مدرسة ما لم تفعل أكثر من استيعاب الملايين التي تجلس اليوم على مقاعد الدراسة فضلا عن الملايين الكثيرة التي تعاقبت عليها خلال أربعين عاما، ولو أنها لم تحقق أكثر من محو الأمية بين هذه الجيوش الجرارة من الأبناء والبنات لما صح أن توصف بما تصفها به قوى التغريب والاستئصال الحضاري من أنها «فاشلة» و«منكوبة» و«معوقة»... فكيف وهي التي أعطت للبلاد كل ما لديها من الإطارات. فكل الإعلاميين والمعلمين والأساتذة والأطباء والصيادلة والمهندسين ورجال المال والأعمال والحر ف المختلفة الذين تقارب أعمارهم الخمسين، هم أبناء المدرسة الجزائرية وخريجو هذه المنظومة التربوية التي يجري جرها اليوم الى غير عالمها الطبيعي. ويكفي أن أعطي رقما واحدا لتبيان الجهد المبذول لبناء هذا الصرح. فقد تخرج من الجامعات الجزائرية خلال أربعين عاما من الاستقلال ما يقارب 700 ألف خريج بشهادة ليسانس وما فوقها. وتخرج السنة الماضية من جامعة العلوم والتكنولوجيا هواري بومدين وحدها 17 ألف خريج في مختلف التخصصات التكنولوجية. ولا يشمل هذا الرقم من تخرجوا من كلية الطب وكليات العلوم الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والحقوق والآداب والمعاهد المتخصصة، هذا في جامعات العاصمة وحدها. فأين نحن من مئة طبيب وصيدلي وعشرة مهندسين عام 1962؟ وهل يعقل أن يوصف نظام تعليمي هذه بعض نتائجه بأنه منكوب وأنه في «حالة كارثة»؟ ـ كلامكم هذا يدفع إلى الاعتقاد بأنكم راضون عن أداء المنظومة التربوية حتى الآن وترفضون بالتالي أي تغيير فيها؟ ــ ليس المقصود هو رفض التغيير، فدفاعي عن منجزات المنظومة التربوية لا يعني بأية حال من الأحوال نكران حاجة المدرسة للإصلاح. وإنني أقر بما فيها من اختلافات تحتاج إلى ترميم وإعادة نظر. ويشهد التاريخ أنني كنت من أوائل من نبهوا لتلك النقائص وطرحوا مسألة تصحيح الوضع. وصارحت الأمة عبر حصة تلفزيونية بمناسبة بداية العام الدراسي الجديد في سبتمبر 1990 بعد شهر فقط من تعييني في منصب وزير التربية الوطنية، بوهن خطير في نظامنا التعليمي وعرضت ضرورة الإسراع في معالجته وباشرت عملية إصلاح واسعة للبرامج والمناهج وتكوين المعلمين لتحسين الأداء التربوي وأدخلت إصلاحات عميقة على المسارات التربوية وامتحان البكالوريا. لكن تم التراجع عنها بمجرد تقديمي استقالة من المنصب في جو مشحون بالمؤامرات والاستفزازات في يونيو 1992. وعلى كل شتان بين أن نصلح الفاسد وأن نهدم البيت كله وفرق شاسع بين أن نشذب الشجرة و نخلصها من أغصانها الجافة وفروعها التي تعطل نموها وبين أن نقتلعها من جذورها بغرض غرس شجرة من نوع آخر بدلها، مع الإصرار على تجاهل أن الشجرة البديلة مستوردة من بيئة أخرى وأن أرضنا غريبة عنها موطنا وتربة ومناخا. والإصلاح بالمفهوم العام هو عملية بناء فإذا حدث فيه هدم جزئي فهو من منظور البناء، أما الإصلاح الذي يسعى إليه التغريبيون الاستئصاليون عندنا فهو كله برنامج تحطيم وتخريب. ومن هذا المنطلق ارفض المساعي الجارية لأنها خطر ليس على المنظومة التربوية في جوانبها البيداغوجية المباشرة ولكنها خطر على الأمة برمتها فتلك الحفنة من المعقدين المستلبين تحاول اليوم أن تحقق ما عجز المحتل الفرنسي عن تحقيقه طيلة 132 سنة من الاستعمار الاستيطاني وما عبر الشعب عن رفضه ودفع في سبيل ذلك بمليون ونصف مليون شهيد لبقاء الجزائر شامخة في محيطها ومتمسكة بثقافتها وحضارتها وانتمائها. ولست أنا الوحيد الذي أعارض هذه اللجنة. صحيح أنني قدت حملة معارضتها ولكن الذي يشهد به كل الملاحظين النز هاء أن الأغلبية الغالبة من الجزائريين من مختلف الشرائح والمشارب السياسية الوطنية وفي مقدمتهم أسرة التربية والتعليم بكل فئاتها وأصنافها وأسلاكها، قد عارضت هذه اللجنة واعترضت على تشكيلتها المنحازة إلى النقيض من مبادئ الأمة ومقوماتها وعبرت بشتى الوسائل عن رفضها المطلق للنتائج التي توصلت إليها. والحال أن العمل الذي قامت به جاء معزولا تماما عن الواقع. فقد اشتغلت مدة تقارب العام بقصر الأمم بنادي الصنوبر حيث تجرى المؤتمرات الوطنية والدولية، بعيدا عن رجال المهنة. ولم يكن يسمح بالوصول إليها حتى للصحفيين ولم يتسن لنقابات المعلمين و الجامعيين وجمعيات أولياء التلاميذ والشخصيات ذات الخبرة في الميدان الحديث لأعضائها وتقديم اقتراحات. واقتصر تعاون اللجنة على «ضيوف» من تونس وفرنسا معروفين بتوجهاتهم السياسية والأيديولوجية الغريبة عن مدرستنا. بمعنى أن اللجنة اشتغلت في شبه سرية تامة، ولما أنهت الأشغال احتكر أربعة أشخاص منها نسخ التقرير النهائي، وكان هؤلاء يشكلون النواة التي تتحكم في توجيه الأشغال. ورئيس اللجنة شخص ينتمي إلى حزب معروف بتوجهاته التغريبية والفرنكفونية والعلمانية وبعدائه الشديد للعروبة والإسلام ويتنكر صراحة لانتماء الجزائر ومقررها شخص ينتمي لوزارة التكوين المهني لا دراية له بشئون المنظومة التربوية والسبب الوحيد الذي جعله في مقام المقرر العام هو انتماؤه للتيار المسيطر نفسه على مشروع الإصلاح. وأحيط التقرير بعد وصوله إلى رئاسة الجمهورية بالكتمان التام وكأنه سر من أسرار الدولة. وأعلن أخيرا أن التقرير درسه مجلس الحكومة لكن لم تتسرب أية معلومات عن الإجراءات المتخذة بشأنه. وأمام هذا الذي يجري لم أجد تسمية لهذا التقرير أكثر تعبيرا من «تقرير العار». أو «وثيقة الاستسلام الحضاري». تقديري أن موضوعا بهذه الأهمية وبهذه الخطورة يفترض أن يكون موضوع نقاش وطني واسع ليخرج بنتائج تلزم الأمة كلها. لكن الأكيد أن هذا النقاش الواسع لو فتح ما تمكنت أقلية من فرض رأيها على المجتمع ولما تجرأ هؤلاء على التنكر لنتائج نظام تربوي إن كان يحتاج فعلا الى إصلاح لكنه حقق نتائج كبيرة بدليل أن الطلاب المتخرجين من المدرسة الجزائرية يتفوقون بامتياز حين يواصلون دراساتهم بالجامعات العالمية الكبيرة.

Email