طلبا للخير وتجنبا لسوء المصير للكبير والصغير

أضرحة وقباب في الجزائر «تحرس البلد» ويزورها الآلاف

ت + ت - الحجم الطبيعي

اعتادت كنزة وهي امرأة في الخمسين من مدينة بجاية الواقعة شرق الجزائر زيارة مقام «سيدي عبد القادر» كل أسبوع و ضريح «يما قورايا» مرة في العام. وقالت إنه لا يوجد ضريح ولي صالح بالمدينة وضواحيها لم تزره ولو مرة واحدة في حياتها. وتضم بجاية ـ حسب ما يعتقد سكانها ـ 99 قبرا للأولياء الصالحين ويقولون بأن المدينة كانت ستصبح مقدسة لولا أن امرأة كانت من بين هؤلاء الأولياء فافسد قدسيتها.

وتحضر المرأة ولائم تقام في لعزيب أومعمر بمنطقة «ايحدادن» بالضاحية الغربية للمدينة إلى جانب عشرات من النساء من مختلف الأعمار يتناولن «وجبات الخير » معا ويتضرعن إلى الله الواحد الأحد بالدعاء لأبنائهن وأزواجهن وإخوتهن . يطلبن تلبية حاجاتهن في الدنيا كما الجنة في الآخرة. وتسود المكان طقوس لا تتوفر في غيره...

في بجاية وهي كبرى مدن منطقة القبائل، كما في مدن وبلدات الجزائر الأخرى لا تبخل النساء خاصة من الفئات الفقيرة التي تطلب العون بزيارة قبور ومقامات الأولياء الصالحين من علماء الدين السابقين الذين تطمع العامة في بقاء بركاتهم «حية » قادرة على التوسط لتحقيق مضمون الدعاء.

تتركز معظم مقامات الصالحين والأضرحة التي تحظى بزيارات دائمة في القبائل، فلكل قرية أو بلدة أو مدينة ولِيها أو أكثر سواء كانت كبيرة أو صغيرة. يقام على ضريحه مقام أو قبة يزوره الناس وتختلف شهرة هذه المقامات وهؤلاء الأولياء وتتفاوت بقدر الأساطير التي نسجت حولها.

وتبعا لذلك ذاع صيت بعضها وتجاوز حدود القرية أو الجهة، أو حتى أصبح رمزا معروفا في كل البلاد كما هو الشأن بالنسبة لـ «سيدي عبد الرحمن الثعالبي» حارس مدينة الجزائر و«سيدي بومدين» حارس تلمسان «وسيدي راشد» في قسنطينة و «سيدي الخير » في سطيف و«سيدي الهواري » في وهران وغيرهم. في حين يبقى بعضهم محدود الشهرة ويدين له أهل القرية بالولاء.

أدعية وولائم

تبنى المقامات عادة وسط القرية وتسمى في بعض الجهات «القرابة» وتعني المكان الطاهر الذي يقرب الداعي إلى ربه للاستجابة لدعائه، وهي عبارة عن بيت كبير يتوسطه ضريح توارثت الأجيال اليقين بأنه لولي صالح، لكن في معظم الأحيان لا أحد يعرف شيئا دقيقا ومؤكدا عنه، باستثناء بعض الأساطير التي هي أقرب إلى الخوارق منها إلى السيرة الذاتية لأشخاص أتقياء وصالحين. وتبجل عامة الناس في الجزائر تلك المقامات أو «القرابات» بتقديس مشوب بالرهبة والخضوع.

فهي بصورة ما رموز لتاريخ غيبي غير محدود المعالم تحفّه الطلاسم وتتخلله القوى الخارقة التي بإمكانها إحضار «المعجزات» في حالة الرضى وبتسليط العقاب والبطش في حالة السخط. ولذلك فالتقرب منها لا يتيح فقط جني البركات والخيرات ولكن أيضا يبعد الشر والأذى والهلاك وسوء المصير.

ومن شدة الولاء و الاحترام المشبع بالخوف فإن نسبة عالية من أهالي الريف ببلاد القبائل خاصة، إن أقسموا بأوليائهم لا يحنثون أبدا. لذلك فزيارة هذه المقامات هي يومية وعلى مدار السنة خاصة من النساء اللائي يتقدمن إلى الضريح للتبرك والتمني والتضرع لتحقيق أمنية ما أو لتجاوز محنة أو الخروج من ورطة.

فتطلب الزواج من طال عليها الانتظار والإنجاب من عز عليها الوليد والذكر من لا تلد إلا الإناث وعودة الغائب من نأى عنها عزيز ... وهلم جرا. وخلال تلك الزيارات تشعل الشموع وتقدم هبات نقدية تسمى محليا «الوعدة» وتعلق تعاويذ وأنسجة ولفائف.

والى جانب هذه الزيارات اليومية التي غالبا ما تكون فردية بحتة ويحيط موضوعها الكتمان، هناك زيارات جماعية وهي عادة أسبوعية تؤديها عائلة أو عشيرة أو مجموعة من الجيران، فتقدم القربان بنحْر تيس أو أكثر وأحيانا بقرة أو ثور وإعداد طبق الكسكسي لإطعام الزائرين والأطفال وعابري السبيل. كما تقدم خلال تلك الزيارة «الوعدة » التي تصل حصيلتها في كثير من الأحيان إلى آلاف الدنانير.

ولدى بعض المقامات الشهيرة في بلاد القبائل مثل «أحمد بن إدريس» بقرية «إيلولة أومالو» مثلا تكون هذه الزيارات الجماعية كل يوم خميس حيث تقبِل عائلات من أماكن بعيدة على متن حافلات تشكل موكبا احتفاليا بهيجا لاسيما من ولاية بجاية. وتقضي ليلة بالمقام مليئة بالمدائح والأدعية والتبرك.

ويزور معظم المهاجرين المقيمين في فرنسا وكذا النازحين إلى مدن الجزائر للعمل والاستقرار مقام «سيدي الصادر» في قرية لعزيب ويطلبون أمام الصندوق الذي يحتضن جثمانه منذ أربعة قرون تحقيق أمانيهم.

«الزردة» والزواج

و تتميز المقامات ذائعة الصيت بتجمع سنوي كبير يسمى «الزردة». ففي يوم معلوم من السنة يقوم المنادي أو«البرّاح» كما يسمى محليا، بجولة لكل قرى وبلدات المنطقة وأسواقها مشيا على الأقدام، لإعلام الناس بموعد «الزردة». وغالبا ما يكون مرفقا عند بلوغه كل قرية ببعض كبارها. وفي السنوات الأخيرة أدخلت تعديلات على وسيلة الاتصال بحيث أصبح المنظمون يلجئون لاستخدام الوسائل الحديثة من ملصقات وإعلانات في الصحف والإذاعة.

ويفد إلى المكان آلاف من الناس من مختلف الأعمار لقضاء يوم كامل من الترفيه في جو المدائح وقرع الطبول والأهازيج والرقص وتقدم لهم أطعمة متنوعة من اللحوم والكسكسي والفواكه الطازجة والمجففة وغيرها. ولا يبخل الزوار في الإجادة بـ «وعْدات» سخية تصل قيمتها عند العد النهائي إلى عشرات الآلاف من الدنانير.

وفي مقامات أخرى يكون موعد اللقاء السنوي يوم عاشوراء حيث يقبل الزوار من الجنسين بالمئات وتكون المناسبة سانحة في بعض النواحي للتقارب بين الشباب والفتيات بغرض التعارف والاكتشاف على أمل عقد صفقات قران .

وقد بلغ الإقبال على بعض المقامات في السنوات الأخيرة مستويات قياسية وتحضر حتى عائلات جزائرية مقيمة بالخارج، بحيث وجب تجنيد قوات الأمن لتنظيم المرور والمحافظة على النظام العام وسط آلاف من الوافدين فيما يشبه «حجا» سنويا. وكسبت هذه الطقوس ساحة واسعة من الجيل الجديد بصرف النظر عن مستواه التعليمي وشعوره الديني.

فهنا الجميع بشر سواسية يحتويهم وعاء واحد بلا تمييز.وهذه الظاهرة التي تعد امتدادا ضاربا في القدم صارت متأصلة في المجتمع القبائلي اليوم وتشكل موردا ماليا هاما للمقامات المقصودة وفي كثير من الأحيان يستفيد من تلك الموارد الفقراء والمحتاجون بالمنطقة.

طلاسم وخوارق

تشكل مقامات الأولياء الصالحين جزءاً لا يتجزأ من تراث الجزائريين عموما، ولا تزال حتى الآن تتمتع بمكانة مرموقة في الوعي الفردي والجمعي، يختلط فيها الشعور الديني بذلك الإحساس الغامض لدى كل إنسان بالعالم الموازي، الطلسمي، غير المفهوم المبني أساسا على «أساطير الأولين» وبقدر ما يسود الاعتقاد بأن «أسياد» تلك المقامات يمكنهم التوسط بين الإنسان وربه ويساعدون على إيصال الدعوات والصلوات وإبلاغ نجواه العميقة.

يعم اليقين بأنهم يتمتعون بطاقات «فوق ـ بشرية» وخارقة قادرة على البطش و إنزال العقاب وفرض الخضوع والركون.

والى ذلك ربما تعود تسميتهم بـ «حراس البلد» أو «حراس الأرض» التي يسهرون ـ في اعتقاد العامة ـ على حمايتها وعلى سكينتها وانتظام الحياة فيها.

فكم من امرأة رأت الولي الصالح بلحمه ودمه وهي بين اليقظة والنوم في صورة شخص كل شيء فيه أبيض من لحية وعباءة وعمامة .

وكم من رجل تراءى له ولي صالح في صورة ثعبان رهيب أو وحش مروع بعد ما تجرأ على ذكره بالسوء في سر أو علن... ومئات من الحكايات الغريبة الأخرى تتناول العلاقة بين «حراس البلد» ومحروسيها.

فهؤلاء وأولئك يروون تجاربهم المروعة وإن كانت عموما لا تصدق لأنها أقرب إلى الخوارق منها إلى ما يمكن أن يستوعبه العقل، لكن كثيراً من الناس لا يجرؤون على إبداء الريبة والاستخفاف مخافة أن تصيبهم اللعنة ويلحق بهم غضب وبطش «حارس البلد».

وفي غمرة الأساطير والحكايات الغابرة والتجارب الشخصية الماثلة تستمر قدسية الأولياء الصالحين دائما قوية وحاضرة في أذهان سكان عدد كبير من الجزائريين يستمدون منها زادا لإشباع الفضول الغيبي، ويتخذون منها حجة لإدامة عادة متأصلة لا تقرب فقط بينهم وبين الله لكنها أيضا تقرب بعضهم من البعض.

الجزائر ـ مراد الطرابلسي

Email