هل فقدنا الطابع الإنساني في عصر الآلة؟

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يعد الطيار يقود الطائرة، ولم يعد سائق السيارة ذاتية التحكم بحاجة إلى توجيهها من أجل الوصول إلى وجهته. هل يُعدّ ظهور الأتمتة الذكية المعتمدة على الحواسيب في صالحنا، أم أنه يمثل تهديداً على المهارات البشرية الأساسية لدينا؟.

نحن الآن في خضم ما يدعوه الاقتصاديون والمحللون التقنيون، الثورة الصناعية الرابعة. ورغم تميز الأجيال الصناعية الثلاثة السابقة بالميكنة (استخدام الآلات)، وخطوط الإنتاج الضخمة، ومن ثم القوة الحاسوبية، إلا أن الجيل الرابع للثروة الصناعية، يتفرد بالنظم الإلكترونية الفيزيائية، التي تتميز بقدر من الفهم والمنطق (والقدرة على التعلم والتحليل) في ما يتعلق بالعالم من حولها.

وبُنيت هذه التطورات على أساس مفهوم جوهري واحد، ينتمي للمصطلحات التقنية والهندسية، ألا وهو «الأتمتة». وأصبحت الأتمتة، كما نعلم، أكثر ذكاءً في الآونة الأخيرة.

الأتمتة في كل مكان

أدى تطبيق الأتمتة «الذكية»، إلى ظهور السيارات ذاتية التحكم، مثل سيارات تيسلا. كما يستخدم الطيارون تقنيات مشابهة إلى حدٍ كبير للتحكم في قيادة الطائرات التجارية الحديثة ذات أنظمة الطيار الآلي المتطورة. ويسعى علماء التكنولوجيا اليوم إلى تطبيق الأتمتة في كل شيء، بدءاً بعربات التسوق التي نستخدمها في متاجر التجزئة، وحتى أساليب تناول الطعام والنوم والسفر والتفاعل مع الآخرين. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل يحمل لنا كل ذلك بشرى سارة؟.

هل ستؤدي الأتمتة التي غزت جوانب شتى في حياتنا، حتى النوع الذكي منها، إلى الحد من مستوى المهارات المعرفية لدينا في نهاية المطاف؟، هل سنتخذ موقفاً جديداً غير مبالٍ في الحياة يؤثر في تفكيرنا، بحيث نصبح أقل اكتراثاً بالآخرين؟.

أم هل ستتمكن الأتمتة، بالنظر في الجانب الإيجابي من هذه المعادلة، من تحسين أسلوب تعاملنا مع أنشطة محددة مختارة، حتى يتسنى لنا التركيز مباشرةً على مستويات أعلى من الابتكار الذي يضيف قيمة إلى حياتنا، والسعي لتحقيق السعادة والرفاهية لغيرنا من البشر؟.

أوضح بيل كولمان، الرئيس التنفيذي لشركة إدارة المعلومات في البيئات السحابية «فيريتاس»: «في غضون 30 عاماً من الآن، أي بحلول عام 2050 تقريباً، ستصبح قيادة سيارة تقليدية على طريق عام أمراً مخالفاً للقانون». «لماذا نسمح للبشر بقيادة السيارات؟، فهم السبب وراء الاختناقات المرورية والحوادث».

شركة كولمان متخصصة في مجال صحة المعلومات ومصداقيتها، لذا، تسمى «فيريتاس». وتركز الشركة على مراقبة المعلومات غير المستخدمة ومنع انتشارها، وهو ما تُطلق عليه الشركة «البيانات الثانوية»، حتى نتمكن من الأتمتة بفعالية، والتحكم في الطريقة التي نطبق بها التقنية في العالم من حولنا.

وجاء تعليق الرئيس التنفيذي، ردّاً على سؤال حول طريقة قيادتنا للسيارات في المستقبل، وهل سيتسنى لنا القيادة بالطريقة التقليدية. وأشار إلى أنه حتى في غضون 30 عاماً، سيظل بعض الناس يرغبون في القيادة، لكن ستُخصص لهم مناطق محددة من باب الترفيه والتسلية فقط. وسينطبق النموذج ذاته على المهام الأخرى، أي إذا كنا نستطيع أتمتة أي عمل روتيني وإنجازه آلياً، فسنفعل ذلك. وهذا من شأنه أن يتيح لنا مزيداً من الأوقات للتركيز على الأعمال التي نرغب حقاً في القيام بها.

في ضوء هذه التعليقات، دعونا نطرح تساؤلنا مجدداً، هل نخاطر بفقدان الطابع الإنساني لدينا عندما نطبق الأتمتة على العالم من حولنا؟، أشار عدد من المنظّرين إلى أن الإجابة «لا». فعلى النقيض، سيتسنى لنا قضاء المزيد من الوقت مع بعضنا البعض في عالم مستقبلي يتسم بالإيجابية بفضل الأتمتة.

من المؤكد أننا نتحمل مسؤولية إيلاء العناية والاهتمام باحتياجاتنا على المدى الطويل عند تطبيق الأتمتة. ونظرياً، يجب علينا أيضاً أن نكون قادرين على استخدام الحواسيب لتطبيق تقنيات التحليل السلوكي لدى استخدامنا للتقنية واعتمادنا عليها. يمكن أن يقودنا هذا إلى إعادة تعريف أسلوبنا في الحياة. ويشمل هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية، متطلبات الحياة المتعلقة بالاحتياجات الفسيولوجية (مثل: الغذاء والماء والأكسجين) في الأسفل، وفي المرتبة الأعلى مستويات الأمان الأساسية (مثل: امتلاك منزل أو مكان للعيش)، ثم الاحتياجات العاطفية (الحب والانتماء)، يعتليها احترام الذات، وأخيراً في أعلى الهرم، إثبات الذات (للتعبير عن تحقيق الذات).

أما التسلسل الهرمي الجديد للاحتياجات في عالمنا الآلي، فيبدأ أيضاً مع الأسس الفسيولوجية، تليها الصحة والأمن والحب بطبيعة الحال. ولكن على الأقل، تمثل جوانب النمو والغرض نصف الهرم الآن. بحيث أصبح تحقيق الذات والتنمية الشخصية، جوانب أساسية في الحياة الآن، مثل الصحة، ويتم رصدها عن كثب بأجهزة تتبع النشاط الشخصي، وهلم جرا. وأشار تشارلي كيم، الرئيس التنفيذي ومؤسس شركة نيكست جامب (Next Jump)، (شركة تعمل في مجال تقنية مقرها الرئيس في مدينة نيويورك): «يمكننا الآن بناء بيئة [توفر] للناس شعوراً أعمق بالترابط مع الآخرين، وتقدير الذات، والتركيز على زيادة إسهاماتهم التي تتعدى رغباتهم واحتياجاتهم الشخصية، والسعي نحو تحسين أنفسهم بوصفهم بشراً».

تُعدّ الحوسبة والأتمتة الذكية، أمرين لا مفر منهما، وينبغي أن يستمرا باعتبارهما قوة إيجابية في صالحنا، ولكن هناك مخاوف وتحفظات بشأنهما. ويمثل الدور المتنامي للبرمجيات في حياتنا، أحد دواعي القلق، على سبيل المثال. فعلى الرغم من أننا نملك الأجهزة (هاتفك الذكي مثلاً)، لا ينطبق ذلك بالضرورة على البرنامج. ومن الأمثلة التوضيحية، ما قدمته سيارات «تيسلا» خلال إعصار إيرما، وهي العاصفة المخيفة التي تسببت في نزوح جماعي من فلوريدا في سبتمبر 2017.

حيث تم تزويد سائقي سيارات تيسلا بترقية مجانية للبرمجيات اللاسلكية من الشركة المصنعة خلال إعصار «إيرما». وكان الهدف من التحديث، أن تحظى سياراتهم بعمر أطول للبطارية، وبالتالي، قيادتها لمسافة أطول. وبعد انتهاء العاصفة، تم إعادة ضبط السيارات إلى وضعها الطبيعي، حيث تمت إعادتها إلى تصنيف ذي قدرة أقل. وتم إرسال التغييرات جميعها آلياً، عن طريق نظام مؤتمت. فكانت هذه هي المرة الأولى التي يدرك فيها العديد من مالكي سيارات «تيسلا»، أن سياراتهم في الواقع مزودة ببطاريات أفضل وأكثر تكلفة، ولكن نظراً لأنهم اختاروا خياراً أرخص، تم تعطيل هذه الخاصية من خلال البرمجيات.

تجسد الأتمتة جزءاً كبيراً من «النسيج» الجديد للمستقبل المبني على البرامج والأجهزة. ولكن دعونا نتذكر أن الحواسيب جيدة في تطبيق الأوامر ومعالجتها، في حين أن البشر يتميزون بامتلاك المنطق والعقل والتفكير والإبداع. كما أننا نتميز ببناء العلاقات، لذا، حان الوقت لإيقاف جهازك، والتواصل مع شخص ما بابتسامة أو مصافحة أو حتى عناق.

تمتع بمستقبلك الآلي، لكن لا تنسَ أن تتمتع بالتفاعل البشري مع أصدقائك وعائلتك أكثر... ولا تنسَ، فليس هناك تطبيق مصمم ليمنحك تلك الخاصية حتى الآن!

* باحث اقتصادي

Email