جمعية فنية تُواجه التهميش والتطرف في شوارع تونس

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

«اجتمعنا في المظاهرات الشعبية فترة الثورة وقرّرنا أن نؤسس مجموعة مُحتجة تدافع عن حقوقها عبر الفنون، لأننا مجموعة من الشباب نؤمن بأن فن الشوارع هو أحد الشواهد عن التغيير الكبير. ونعتبر أيضاً أنه أصبح من الضروري بروز نخبة شبابية مبدعة ومثقفة استوعبت ثقافة الامتزاج الثقافي من خلال الشبكات الاجتماعية وتبنت قضايا مُجتمعاتها عبر مفاهيم حديثة تمكّنها من طرحها ومعالجتها في إطارها العصري والحاضر»، هكذا ولِدت جمعية «فنّي رغماً عنّي» على حدّ قول رئيسها، سيف الدين الجلاصي.

فهذه الجمعية التي انبثقت عام 2011 مع ثورة الياسمين في تونس كمجموعة أو حركة، تحوّلت إلى جمعية ثقافية مستقلة سنة 2013 في مدينة تونس من أجل العمل على تفعيل الشارع التونسي كفضاء مفتوح للتعبير السياسي والفني والثقافي عبر تنمية القدرات الفنية للشباب الموهوب من الجنسين في الأحياء الشعبية والمهمشة ومساعدتهم على تطوير تجارِبهم وإتاحة الفرص لهم لإنتاج العروض الأدائية التفاعلية.

ويُشدّد الجلاصي «نحن حركة شعبية مستقلة تؤمن بأن الفنون والثقافة ضرورة لتحقيق التنوير»؛ حركة لا تتردد في التنقّل، بفضل مشاريعها الفنية المتنوعة، عبر مختلف المناطق والأحياء المهمّشة بهدف التوصّل إلى مجتمع خالٍ من التمييز وواعٍ بحقوقه الثقافية.

وقد يتساءل البعض عن سبب اختيار «فني رغماً عنّي» اسماً للجمعية إلا أن السبب واضحٌ بالنسبة للجلاصي الذي يُطلعنا «أسماؤنا الغريبة [للجمعية ومختلف مشاريعها] وغير المألوفة تحمِل خلفيات فلسفتنا الجمالية وقراءتنا للفنّ والقضايا. لم يتم اختيار هذا الاسم من قبيل الصدفة لا بل لتُثير الفضول والتساؤل». ويواصل حديثه قائلاً: «إن اسم المجموعة يشكل في حد ذاته فخاً متعمداً يقع فيه كل من نطق به أو قرأه. فكل من ذكر الاسم يعترف ضمنياً أنه فنيّ رغماً عنه. وفي ذلك انخراط لاإرادي في مشروع يهدف إلى جعل كل الناس بدون استثناء مبدعين وفنانين».

الجميع مبدعون وفنانون يبقى الهدف الأبرز للجمعية التونسية التي تتألف من مجموعة من الأفراد المؤمنين بهذه الرؤيا؛ خمسة مؤسسين وهيئة مديرة ومكتب تنفيذي ومجلس أمناء و114 متطوعاً يعملون على بلورة باقة واسعة من المشاريع المتنوعة.

وهنا يشرح لنا الجلاصي «أبرز ما تقوم به الجمعية يتلخّص في ثلاثة مناهج». أولاً، التدريب والتكوين؛ ويكشف لنا الجلاصي «هذا المنهج هو العنصر الأساسي في مؤسستنا حيث إن فريق العمل يسهر على تنظيم جملة من المشاريع التي تهتم بتكوين الشباب في مجالات الفنون البديلة ومسرح الشارع». أما المنهج الثاني، فهو البحث والتثقيف وهو جناح المهتمين بثقافة حقوق الإنسان والإدارة الثقافية ويسهر على رفع قدرات شباب الأحياء الشعبية في التخطيط والقيادة. وأخيراً، الإنتاج والتوزيع الذي يُشكّل الباب الذي يشرف على إنتاج العروض الفنية وتوزيعها إضافة إلى المشاركة في المهرجانات والمحافل الدولية.

الفن يدقّ أبواب المناطق المحرومة..

لا شك أن هذه السطور لن تكفي لتعداد والغوص في تفاصيل كل المشاريع التي تُنظّمها الجمعية في تونس، إلا أننا اخترنا التوقف عند بعض منها كنموذج عن كيفية استغلال الفن لإحداث التغيير المجتمعي.

«قافلة من أجل حقي» اسم على مسمى. فهذا المشروع الذي نُظّم مرتين يكمن في قافلة تجوب مناطق تونسية تُعاني الحرمان من الحقوق والحريات، إضافة إلى المكوث في كل منطقة لمدة ثلاثة أيام من أجل توفير ورشات حقوقية فنية تفاعلية بالإضافة إلى حلقات نقاش وتبادل الخبرات. ويقول الجلاصي «تمزج الدورات التكوينية التفاعلية التي تقدم للفئة المستهدفة وأصحاب الحق من الجنسين بين الفنون وحقوق الإنسان مع التركيز على الحقوق الثقافية وحرية التعبير وحق المشاركة إلى جانب التطرق لأهم مبادئ المواطنة والديمقراطية».

أما «الفن مواطنة.. المواطنة فن»، فيُشكّل مشروعاً تعليمياً وتدريبياً امتدّ على مدار سبعة أشهر تمّ خلالها متابعة أكثر من 120 شاباً من الجنسين من منطقة ''الوردية'' و''حي السيدة '' وهما أكثر الأحياء تهميشاً وخطورة في ضواحي العاصمة. وتوّج المشروع بإنتاج عرض فني راقص بعنوان ''السيدة«نابع من فكرة وأداء الفئات الشبابية المستهدفة.

ويريد»معسكر الفنون«أن يكون فضاءَ لتبادل المعرفة والمهارات ومساحة للتعبير الحرّ للشباب والشابات من أجل خوض تجربة فنية جديدة في شكلها ومضمونها.

يجمع العرض الفني الفرجوي»زمكان«بين التعبير الدرامي والفن التشكيلي والرقص والموسيقى البديلة ويهدف إلى»تحرير الفنون من فضاءات العرض التقليدية المغلقة وإخراجها إلى الساحات الرحبة والشوارع العمومية لإتاحة التفاعلات بين «العامة» والإبداع وفتح المجال للأقليات العرقية في تونس (أمازيغ) لرفع قدراتها للتعبير وعرض صورة واقعها في شكل تعبيري فني لا يكتفي فيه بالعرض فقط وإنما السعي والمحاولة لضرورة تغيير هذا الواقع كدافع من دوافع إعادة هيكلة المنظومة المجتمعية وفق منطق يستقر على احترام الحقوق والحريات، وذلك عبر تنمية خبراتهم في مجال القيادة والإدارة الثقافية«، على حد قول الجلاصي.

.. والعامة يفتحون له الباب

ويكشف لنا الجلاصي ما وجدته الجمعية بفضل عملها وتنقلها بين المناطق موضحاً:»إن المناطق التي نؤدي بها هي المناطق العشوائية والأحياء الشعبية التي تعاني من الظروف المعيشية الصعبة وخاصة الحرمان من كل أشكال الفنون والثقافة. وحتى لو حاولنا، بصفة مبسطة، دراسة أهم الاحتياجات المتعلقة بحق هذه المجتمعات في الفن والثقافة لا يمكن أن نتغافل على أن الخدمات لا تتجاوز حدود المؤسسات الموجودة في العاصمة، كمهرجانات ومسارح وقاعات سينما ومعارض تقام بصفة دورية ومتنوعة ليبقى نصيب العشوائيات قليلاً في التمتع بأبسط الحقوق«.

تقبّل الشارع ولو بعد فترة يوازيه صعوبات واجهتها الجمعية من قبل المجموعات المتشددة دينياً، حيث يخبرنا الجلاصي «تعرّضنا للعنف الشديد والتهديد في العديد من المرات. وطبعاً لا يمكن أن نتغافل عن الصعوبات والرقابة الأمنية التي لم تتقبل بعد فكرة الانتماء للفضاء العام وحق التمتع به لأنه ملك للمواطن لا للسلطة».

على الرغم من الصعوبات، يبقى أن «فني رغماً عني» تواصل نشاطاتها وبرامجها في مختلف المناطق التونسية حاملة معها رسالة الفن للجميع؛ هي كغيرها من المنظمات تؤمن بأنه وسيلة لإحداث التغيير في العالم العربي. وهنا يقول الجلاصي «البرنامج الثقافي يحمل رؤية متكاملة للإبداع والفن والجمهور والفضاء والزمان والقضايا الاجتماعية المتنوعة (..) فالفن هو الحياة بكل أبعادها وزخْمها وألمها وتناقضاتها لذلك فهو يسكن في الفضاء العام الذي تمارس فيه الحياة الاجتماعية. وهو جزء من العلاقة العضوية بين الإنسان والفضاء الجغرافي والذاكرة الجماعية. ومن هذا المنطلق، فهو لا يجب أن يقتصر على نخبة اجتماعية «مميزة» وإنما يجب أن يتاح كممارسة تعبيرية وجمالية لكل الناس».

وعلاوة على الجهود التي تبذلها «فني رغماً عني» وغيرها من المنظمات الشبيهة، يرى الجلاصي أن «تونس والمنطقة العربية تحتاج إلى بناء سياسات ثقافية واضحة وجريئة تتيح الفرص للشباب لأخذ القرارات وقيادة البرامج الوطنية، كما تحتاج كل المنطقة للتعويل على الحقل الثقافي في برامج الحكومة ودعم اللامركزية بدون رقابة أو تمييز».

Email