مأسسة العمل الخيري

ت + ت - الحجم الطبيعي

لقد بات هناك حاجة ملحة لتطوير هذه الظاهرة كونها الآلية التي من خلالها تستطيع الحكومات تجنيد المجتمع لما فيه خير هذا المجتمع ذاته، وتأطير قيم الخير والتطوع والعطاء.

لم يعد العمل الخيري، أي العمل الذي يبذل من خلاله الأفراد والمؤسسات وقتهم وجهدهم للتأثير إيجاباً في واقعهم وتنميته دون مقابل، مجرد حالة هامشية على أجندات الدول والحكومات التي تسعى لبناء مجتمعات عصرية وحديثة من ناحية، ومتماسكة ومنسجمة في علاقاتها ومساعيها من ناحية ثانية.

لقد بات هناك حاجة ملحة لتطوير هذه الظاهرة، كونها الآلية التي من خلالها تستطيع الحكومات تجنيد المجتمع لما فيه خير هذا المجتمع ذاته، وتأطير قيم الخير والتطوع والعطاء ضمن مؤسسات منظمة في هيكليتها وإداراتها، ومدركة لأهدافها والمجالات التي يجب أن تعمل بها ضمن الأولويات التي تحددها الاستراتيجية العامة للدولة.

ولم يعد مفهوم المجتمعات مجرد رقم ضمن تعداد سكان العالم، أو مكان تحدده جغرافيا معينة، بل أصبح اليوم في ظل عولمة الثقافات والحضارات، مفهوماً ثقافياً بامتياز، فالأمم تُعرف بهويتها الإنسانية وقيمها الأخلاقية، ومقدار مساهمتها طوعاً في تقديم ما تستطيع لدعم مسيرتها التنموية، والتأثير إيجاباً في تنمية غيرها من الشعوب، بما تضيفه من قيمة عالية لمفهوم وممارسة الخير.

هل يمكن مأسسة قيم الخير والعطاء والتطوع؟ وهل يمكن حمايتها ورعايتها بالقانون؟

القيم هي الشكل النبيل الخيّر لعلاقة الإنسان بأهله ومجتمعه ووطنه وعلاقته بالطبيعة والبيئة وكل شيء آخر سواه. أي لا معنى للقيم إلا في فضاء المجتمع، حتى يستطيع الفرد التعبير عنها بالممارسات المختلفة.

مأسسة القيم تأتي في هذا السياق، أي تنظيم هذه العلاقة بين الإنسان ومحيطه، وتعزيز ممارساته بممارسات غيره، وتعميقها بالتجربة التي تنتج المعرفة اللازمة لتحويلها إلى استراتيجيات وبرامج ومشاريع.

وفي السياق ذاته أيضاً، تُقرأ نشأة القوانين التي ترعى القيم، إذ شكلت بداية مرحلة من الوعي، التي يرفض فيها البشر التراجع عما اكتسبوه منها، ولو نظرنا بعمق لطبيعة الأهداف التي تقف خلف القوانين، لوجدنا أن غاية كل منها حماية قيمة اجتماعية معينة، والغاية من مجموعها حماية الخير بشكل عام، ومواجهة كل ما يمس به للحفاظ على جوهر النظام الاجتماعي. وهذا مدخل لمعرفة أهمية مأسسة القيم ورعايتها بالقوانين والحوكمة الرشيدة.

يرى خبراء الاقتصاد في العالم، أن الأزمة المالية العالمية الأخيرة، كشفت فداحة نتائج غياب التنمية على الشعوب الفقيرة والبلدان النامية، لكن نتيجة واحدة تتصدر اهتمام رواد الاقتصاد الباحثين عن الكيفيات المناسبة لاستنهاض الاقتصاد العالمي، وهي أن تراجع مستويات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك البشرية بطبيعة الحال، أفقدت الشركات قسماً كبيراً من أسواقها وعملائها، وقلصت من حجم مواردها البشرية المؤهلة.

اتساع مساحة الفقر، يضعف القدرة الشرائية للشعوب، وهذا يؤثر بشكل مباشر في أرباح الشركات في القطاعين العام والخاص. وكذلك تراجع مستويات الصحة والتعليم والتأهيل التقني الحديث، يفقد هذه الشركات مخزونها الاستراتيجي من الكوادر البشرية.

ناهيك عن الخسائر الفادحة التي تتكبدها الحكومات بسبب البطالة وتعطل قوى الإنتاج، وما ينتج عنه من ضعف في موارد الدولة، وبالتالي، عجز تلك الدول عن تنفيذ مشاريعها السيادية الضخمة، التي تستفيد منها شركات القطاع الخاص.

في القمة العالمية للعمل الإنساني، التي عقدت في العام الماضي 2016 في إسطنبول، وضع المشاركون أول تصور عالمي متفق عليه لكيفية مأسسة هذا النوع من النشاط، وحددت القمة، التي اشترطت نجاح العمل الإنساني على مستوى عالمي، بضرورة نجاحه على المستويات الوطنية أولاً، أي أن تهتم كل دولة بهذا القطاع داخلياً، ثلاثة عناوين ناظمة للنشاط التنموي الإنساني، وهي: دور القيادات السياسية في تحفيز المجتمع، من خلال مبادرات ومشاريع وطنية ذات بعد عالمي، شمولية التنمية، التمكين كبديل عن المساعدة، الاستثمار في الإنسانية.

وتعتبر هذه العناوين مرجعاً دولياً للقطاعين العام والخاص على صعيد مأسسة العمل التنموي الإنساني وتنظيمه واستدامته.

ثم جاء منتدى دافوس الأخير 2017، ليؤكد على ضرورة أن يتولى القطاع الخاص مسؤولياته ضمن الأجندة الدولية، وشهد اليوم الثاني، مثالاً واضحاً، حيث أعلنت 22 شركة أدوية عالمية، عن استثمار 50 مليون دولار في توفير علاجات مجانية ودورات تثقيف بالمسلكيات الصحية للفقراء في دول العالم الثالث.

النتيجة هنا واضحة، وهي أن التنمية الشاملة والمستدامة، التي على الشركات والمؤسسات في القطاعين العام والخاص رعايتها ودعمها، هي سبب مباشر في تنشيط الحراك الاقتصادي، وفي رفع مستوى أرباحها، وبالتالي، قدرتها على الاحتفاظ بوجودها في الأسواق، أي أن ما تمارسه المؤسسات التنموية الإنسانية، يصب في هدف إنقاذ الاقتصاد العالمي، ما يستوجب على الشركات في القطاع الخاص تحديداً، بوصفها مستفيدة من عملية الإنقاذ هذه، أن تسهم بالمال والخبرة والوقت بدون تردد لحماية ذاتها أولاً.

تعتبر بدايات النهضة الصينية، درساً في علوم الشراكة الاجتماعية بين الدولة بمؤسساتها الرسمية والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني العاملة في مجال التنمية الطوعي، فعندما بدأت تنفيذ برامجها لإصلاح الريف، أدركت أنه لا سبيل إلى تحقيق أهداف مجدية على هذا الصعيد، بدون تحقيق شراكة اجتماعية، تشمل مجتمع الأعمال والمجتمع المحلي، بما فيه من مؤسسات تنموية طوعية، وعرّف البروفيسور جوزيف ستجليتز، الاقتصادي الأميركي، والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001، هذه الخطوة من الحكومة الصينية، بنظرية «الإبداع الاجتماعي».

ويعتبر «ستجليتز»، أن تفعيل مؤسسات المجتمع الصيني التنموية الخيرية، ساهم في تسريع التطور التقني للصين، التي تحتضن اليوم في أسواقها أهم عمالقة التكنولوجيا في العالم، وأن الأموال التي استثمرتها شركات القطاع الخاص آنذاك، عادت إليها بأرباح مضاعفة، فهي التي تقود قطاع الصناعة الصيني اليوم في مختلف مجالات الإنتاج.

قد لا تكون دولة الإمارات العربية المتحدة هي الأولى في العالم من حيث عدد وقدم الجمعيات الخيرية العاملة على أراضيها، لكنها الأولى بدون منازع، من حيث ما تقدمه لمجتمعها وللعالم من مساهمات خيرية تنموية، قياساً بناتجها الوطني، وبتجربتها الزمنية كدولة لا يزال عمرها أقل من نصف قرن، وكذلك من حيث حجم المساعي التي تبذلها لمأسسة قيم الخير وثقافته، وتحويلها إلى استراتيجية عمل منظم ومستدام، ورافد أساسي من روافد التنمية والتقدم، مع كل ما يرافق هذه المساعي من ميزانيات تصرف خصيصاً لتحقيق هذا الهدف، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن المبالغ التي تنشرها جهات دولية ومحلية، وتبين حجم المساهمة في العمل التنموي الخيري، لا تشمل هذه الميزانيات.

وقد نشرت وزارة التنمية والتعاون الدولي، أن المساعدات التنموية والإنسانية والخيرية التي قدمتها الإمارات خلال 44 عاماً، أكثر من 173 مليار درهم، شملت 21 قطاعاً، وتوزعت على 178 دولة، استفادت من مشاريع وبرامج المؤسسات الإماراتية المانحة خلال الفترة بين عامي 1971 و2014.

وإذا كانت لهذه الممارسات أهدافها الذاتية، التي تتمثل ببناء هوية الأمة والتعريف بقيمها، فإن هذه الأهداف تجتمع ضمن استراتيجية عربية جديدة، وهي إحداث تغيير جذري وإيجابي على الشعوب.

Email