نشر الذكاء الاصطناعي

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يواجه العالَم الآن ما يسميه المراقبون طفرة النمو المتزامنة. ولكن ماذا يعني هذا عندما يتعلق الأمر بالتقارب الاقتصادي بين البلدان المتقدمة والنامية، وهو الموضوع الذي فَقَد بروزه بعد بداية الركود العظيم قبل عشر سنوات؟

في تسعينيات القرن العشرين، بدأت الاقتصادات النامية ككل تنمو بسرعة أكبر من الاقتصادات المتقدمة (من حيث نصيب الفرد)، الأمر الذي أثار حالة من التفاؤل بإمكانية حدوث التقارب بين المجموعتين في الناتج والدخل. وفي الفترة من 1990 إلى 2007، كان متوسط نمو نصيب الفرد السنوي في الاقتصادات النامية أعلى بنحو 2.5 نقطة مئوية عن نظيره في الاقتصادات المتقدمة. وفي الفترة من 2000 إلى 2007، اتسعت الفجوة إلى 3.5 نقاط مئوية. ورغم أن التقدم لم يعم كل الدول ــ فلم يكن أداء العديد من الاقتصادات الصغيرة طيباً ــ فإن بنية الاقتصاد العالمي في مجمل الأمر شهدت تحولاً واضحاً. كانت الدول الآسيوية تلحق بالركب بسرعة كبيرة بشكل خاص، مدفوعة بالاقتصادات الديناميكية الضخمة مثل الهند، وعلى وجه الخصوص الصين (التي شهدت ما يقرب من ثلاثة عقود من نمو الناتج المحلي الإجمالي بمتوسط تجاوز 10%).

ولكن بعد اندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2007، تغيرت الديناميكية. ففي البداية، بدا الأمر وكأن التقارب يتسارع. فمع توقف نمو الاقتصادات المتقدمة تقريبا، ارتفع تقدم الدول النامية في ما يتصل بنمو نصيب الفرد إلى أربع نقاط مئوية. ولكن في الفترة من 2013 إلى 2016، تباطأ النمو في العديد من الاقتصادات الناشئة ــ وخاصة في أميركا اللاتينية، حيث شهدت البرازيل نمواً سلبياً في عام 2015 وأيضا في عام 2016 ــ في حين انتعش النمو في الولايات المتحدة. فهل نحن، كما زعم بعض المراقبين، نشهد نهاية التقارب؟

تعتمد الإجابة على قدرة الاقتصادات النامية على إيجاد واستغلال مصادر نمو جديدة وأكثر تقدماً. في الماضي، كان التصنيع المحرك الأساسي للتقارب. ونجحت الدول النامية التي اكتسبت أخيراً المهارات والمؤسسات اللازمة في تطبيق تكنولوجيات الدول المتقدمة محلياً، مستفيدة من العمالة الوفيرة المنخفضة التكلفة. ولكن، كما زعم داني رودريك، كاد هذا المصدر للحاق بالركب من خلال الاستنساخ السهل يستنفد تماماً. فقد اقتُطِفَت الثمار الدانية في قطاع التصنيع بالفعل. وكان اللحاق بالركب أكثر صعوبة في قطاع الخدمات، الذي يمثل الآن حصة أكبر من مجموع القيمة المضافة.

وعلاوة على ذلك، فإن التكنولوجيات المتطورة اليوم ــ مثل الروبوتات، والذكاء الاصطناعي، والهندسة البيولوجية ــ أكثر تعقيداً من الآلات الصناعية، وربما يكون استنساخها أشد صعوبة. ولأن الآلات الذكية من الممكن أن تشغل على نحو متزايد الوظائف المنخفضة الأجور، فربما تضاءلت ميزة التكلفة في البلدان النامية بشكل كبير.

مع ذلك، وكما أوضح دارون أسيموجلو وباسكوال ريستريبو فإن التأثير المترتب على هذه التكنولوجيات ــ وخاصة الأتمتة والذكاء الاصطناعي ــ أكثر دقة من ذلك. فوفقاً للباحثين، يُعَد الناتج الكلي دالة وظيفية على العمالة التقليدية، ورأس المال التقليدي، ورأس المال الموظف في المهام التي يمكن أداؤها بالكامل دون عمالة. ويعمل النمو في حالة التقدم التكنولوجي القائم على العمالة التقليدية وتعظيم رأس المال، أو النمو في حالة التقدم الذي يزيح العمالة، على زيادة الناتج، ولكن النمو في الحالة الأخيرة يؤدي أيضا إلى تقليص الطلب على العمالة وانخفاض الأجور. وعلى النقيض من هذا، يعمل نمو الإنتاجية، أو تعميق الأتمتة، أو خلق مهام جديدة تماماً، على زيادة الطلب على اليد العاملة ودفع الأجور إلى الارتفاع.

بطبيعة الحال، يتطلب ظهور الروبوتات والذكاء الاصطناعي في سلاسل القيمة في البلدان النامية، بما في ذلك الخدمات التي تعتمد على تكنولوجيات جديدة مبدعة، امتلاك الحد الأدنى من المهارات والبنية الأساسية الضرورية. ولكن نشر بعض التكنولوجيات والمهام الجديدة في الاقتصادات الناشئة ربما لا يكون أكثر صعوبة أو تكلفة من نشرها في الدول المتقدمة.

هنا يتوقف الكثير على نوع العمل التكميلي المطلوب. كثيراً ما يفترض أن إيجاد مجمع من العمالة الشديدة المهارة أمر بالغ الأهمية لنشر الذكاء الاصطناعي. وربما يصدق هذا في بعض الحالات، لكن العكس قد يكون صادقاً في حالات أخرى. على سبيل المثال، من الممكن أن تعمل التكنولوجيات الجديدة المزيحة للعمالة على إفساح المجال لأنشطة كانت العمالة الماهرة اللازمة لها غير كافية. وبالتالي فإن الأتمتة الكاملة من الممكن أن تؤدي إلى تعظيم حصة النشاط الاقتصادي في أية دولة نامية.

يتمثل عامل آخر من العوامل التي ستشكل عملية رفع المستوى التكنولوجي في البلدان النامية في رغبة الشركات العالمية في الاستثمار. وسوف تعمل هياكل السوق العالمية والتسعير جزئياً على تعيين حدود عملية توزيع الفوائد. لكن هذا يتوقف أيضا على مدى كفاءة الدول في استيعاب الدروس التنظيمية، بما في ذلك كيفية تصميم القواعد الجاذبة للمستثمرين، والاستيلاء على شرائح مهمة من سلاسل القيمة، وتأمين حصة كبيرة بالقدر الكافي من المكاسب للإبداع والابتكار. والواقع أن الدول التي تتعلم بسرعة ربما تنمو في واقع الأمر بسرعة أكبر من الاقتصادات المتقدمة، حتى في قطاعات التكنولوجيا الفائقة.

بطبيعة الحال، يظل المجال المتاح للحاق التقليدي بالركب كبيراً بالنسبة للعديد من البلدان والقطاعات ــ وهي العملية التي ستستمر في دفع عجلة النمو في الأرجح. ولكنها لن تكون كافية لتغذية التقارب الحقيقي. ولهذا السبب، تحتاج الدول النامية إلى نشر التكنولوجيات الجديدة بكفاءة كبيرة نسبياً، مع الوضع في الاعتبار الدور الذي تلعبه مهارات سوق العمل والضوابط التنظيمية. لن تكون هذه بالمهمة السهلة، وربما لا نعود أبداً إلى «العصر الذهبي» للتقارب الذي سبق عام 2007. ولكن لا ينبغي لنا أن نتوقع أن تعمل التكنولوجيات الجديدة على وقف عملية التقارب، حتى لو تسببت في إبطائها، كما هو متوقع.

* وزير الشؤون الاقتصادية في تركيا سابقاً، والمدير السابق لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وهو كبير زملاء مؤسسة بروكنغز

Email